{ 7 - 9 } { لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ * إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ }
يقول تعالى : { لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ ْ } أي : عبر وأدلة على كثير من المطالب الحسنة ، { لِلسَّائِلِينَ ْ } أي : لكل من سأل عنها بلسان الحال أو بلسان المقال ، فإن السائلين هم الذين ينتفعون بالآيات والعبر ، وأما المعرضون فلا ينتفعون بالآيات ، ولا في القصص والبينات .
ثم حكى - سبحانه - بعد ذلك حالة إخوة يوسف وهم يتآمرون عليه ، وحالتهم وهم يجادلون أباهم في شأنه . وحالتهم وهم ينفذون مؤامراتهم المنكرة وحالتهم بعد أن نفذوها وعادوا إلى أبيهم ليلا يتباكون فقال - تعالى - :
{ لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ . . . } .
قوله - سبحانه - { لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ } شروع في حكاية قصة يوسف مع إخوته ، بعد أن بين - سبحانه - صفة القرآن الكريم ، وبعد أن أخبر عما رآه يوسف في منامه ، وما قاله أبوه له .
وإخوة يوسف هم : رأو بين ، وشمعون ، ولاوى ، ويهوذا ، ويساكر ، وزبولون ، ودان ، ونفتالى ، وجاد ، وأشير ، وبينامين .
والآيات : جمع آية والمراد بها هنا العبر والعظات والدلائل الدالة على قدرة الله - تعالى - ووجوب إخلاص العبادة له .
والمعنى : لقد كان في قصة يوسف مع إخوته عبر وعظات وعظيمة ، ودلائل تدل على قدرة الله القاهرة ، وحكمته الباهرة ، وعلى ما للصبر وحسن الطوية من عواقب الخير والنصر ، وعلى ما للحسد والبغى من شرور وخذلان .
وقوله : " للسائلين " أى : لمن يتوقع منهم السؤال ، بقصد الانتفاع بما ساقه القرآن الكريم من مواعظ وأحكام .
أى : لقد كان فيما حدث بين يوسف وإخوته ، آيات عظيمة ، لكل من سأل عن قصتهم ، وفتح قلبه للانتفاع بما فيها من حكم وأحكام ، تشهد بصدق النبى - صلى الله عليه وسلم - فيما يبلغه عن ربه .
وهذا الافتتاح لتلك القصة ، كفيل بتحريك الانتباه لما سيلقى بعد ذلك منها ، ومن تفصيل لأحداثها ، وبيان لما جرى فيها .
ويسدل السياق الستار على مشهد يوسف ويعقوب هنا ليرفعه على مشهد آخر : مشهد إخوة يوسف يتآمرون ، مع حركة تنبيه لأهمية ما سيكون :
( لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين . إذ قالوا : ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة . إن أبانا لفي ضلال مبين . اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قوما صالحين . قال قائل منهم : لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابة الجب يلتقطه بعض السيارة إن كنتم فاعلين ) . .
لقد كان في قصة يوسف وإخوته آيات وأمارات على حقائق كثيرة لمن ينقب عن الآيات ويسأل ويهتم . وهذا الافتتاح كفيل بتحريك الانتباه والاهتمام . لذلك نشبهه بحركة رفع الستار عما يدور وراءه من أحداث وحركات . فنحن نرى وراءه مباشرة مشهد إخوة يوسف يدبرون ليوسف ما يدبرون .
القول في تأويل قوله تعالى : { لّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لّلسّائِلِينَ } .
يقول تعالى ذكره : { لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وإخُوَتِهِ } ، الأحد عشر ، { آياتٌ } ، يعني : عبرَ وذكر للسّائِلِينَ ، يعني : السائلين عن أخبارهم وقصصهم . وإنما أراد جلّ ثناؤه بذلك نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم ، وذلك أنه يقال : إن الله تبارك وتعالى إنما أنزل هذه السورة على نبيه يعلمه فيها ما لقي يوسف من إخوته وإذايته من الحسد ، مع تكرمة الله إياه ، تسلية له بذلك مما يلقى من أدانيه وأقاربه من مشركي قريش . كذلك كان ابن إسحاق يقول .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : إنما قصّ الله تبارك وتعالى على محمد خبر يوسف وبغي إخوته عليه وحسدهم إياه حين ذكر رؤياه ، لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم من بغي قومه وحسده حين أكرمه الله عزّ وجلّ بنبوّته ليتأسى به .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : { آياتٌ للسّائِلِينَ } : فقرأته عامّة قرأة الأمصار : { آياتٌ } ، على الجماع . ورُوى عن مجاهد وابن كثير أنهما قرءا ذلك على التوحيد .
والذي هو أولى القراءتين بالصواب قراءة من قرأ ذلك على الجماع ، لإجماع الحجة من القرّاء عليه .
قرأ الجمهور «آيات » بالجمع ، وقرأ ابن كثير - وحده{[6566]} - «آية » بالإفراد ، وهي قراءة مجاهد وشبل وأهل مكة ؛ فالأولى : على معنى أن كل حال من أحواله آية فجمعها . والثانية : على أنه بجملته آية ، وإن تفصل بالمعنى ، ووزن «آية » فعلة أو فعلة أو فاعلة على الخلاف فيه{[6567]} ، وذكر الزجّاج : أن في غير مصحف عثمان : «عبرة للسائلين » ؛ قال أبو حاتم : هو في مصحف أبيّ بن كعب .
وقوله : { للسائلين } يقتضي حضاً ما على تعلم هذه الأنباء ، لأنه إنما المراد آية للناس ، فوصفهم بالسؤال إذ كل واحد ينبغي أن يسأل عن مثل هذه القصص ، إذ هي مقر العبر والاتعاظ . ويصح أيضاً أن يصف الناس بالسؤال من حيث كان سبب نزول السورة سؤال سائل كما روي .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وإخُوَتِهِ}، الأحد عشر، {آياتٌ}، يعني: عبرَ وذكر للسّائِلِينَ، يعني: السائلين عن أخبارهم وقصصهم. وإنما أراد جلّ ثناؤه بذلك نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم، وذلك أنه يقال: إن الله تبارك وتعالى إنما أنزل هذه السورة على نبيه يعلمه فيها ما لقي يوسف من إخوته وأدانيه من الحسد، مع تكرمة الله إياه، تسلية له بذلك مما يلقى من أدانيه وأقاربه من مشركي قريش...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
(لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ...)؛ آية للسائل إذا كان السائل يسترشد، وكذلك القرآن كله، هو حجة وآية للمسترشد. وأما المتعنت فهو آية عليه...
يحتمل قوله: (آيات للسائلين) السائلين الذين يسألون من بعد إلى آخر الدهر عن نبأ يوسف؛ كل من سأل عن خبره ونبئه، فهو آية له...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{لقد كان في يوسف وإخوته آياتٌ للسائلين} في هذه الآيات وجهان:
أحدهما: أنها عِبَرٌ للمعتبرين.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
يعني لكلِّ ذي مِحنة حتى يعلم كيف يصبر، ولكلَّ ذي نعمة حتى يعلم كيف يشكر. ويقال في قصتهم كيفية العفو عن الزَلَّة، وكيفية الخَجْلَةِ لأهل الجفاءِ عند اللقاء. ويقال في قصتهم دلالاتُ لطفِ الله سبحانه بأوليائه بالعصمة...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{للسائلين} يقتضي حضاً ما على تعلم هذه الأنباء، لأنه إنما المراد آية للناس، فوصفهم بالسؤال إذ كل واحد ينبغي أن يسأل عن مثل هذه القصص، إذ هي مقر العبر والاتعاظ. ويصح أيضاً أن يصف الناس بالسؤال من حيث كان سبب نزول السورة سؤال سائل كما روي...
ذكروا في تفسير قوله تعالى: {آيات للسائلين} وجوها:
الأول: قال ابن عباس دخل حبر من اليهود على النبي صلى الله عليه وسلم فسمع منه قراءة يوسف فعاد إلى اليهود فأعلمهم أنه سمعها منه كما هي في التوراة، فانطلق نفر منهم فسمعوا كما سمع، فقالوا له من علمك هذه القصة؟ فقال: الله علمني، فنزل: {لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين} وهذا الوجه عندي بعيد، لأن المفهوم من الآية أن في واقعة يوسف آيات للسائلين وعلى هذا الوجه الذي نقلناه ما كانت الآيات في قصة يوسف، بل كانت الآيات في إخبار محمد صلى الله عليه وسلم عنها من غير سبق تعلم ولا مطالعة وبين الكلامين فرق ظاهر...
والثاني: أن أهل مكة أكثرهم كانوا أقارب الرسول عليه الصلاة والسلام وكانوا ينكرون نبوته ويظهرون العداوة الشديدة معه بسبب الحسد فذكر الله تعالى هذه القصة وبين أن إخوة يوسف بالغوا في إيذائه لأجل الحسد وبالآخرة فإن الله تعالى نصره وقواه وجعلهم تحت يده ورايته، ومثل هذه الواقعة إذا سمعها العاقل كانت زجرا له عن الإقدام على الحسد...
الرابع: أن إخوة يوسف بالغوا في إبطال أمره، ولكن الله تعالى لما وعده بالنصر والظفر كان الأمر كما قدره الله تعالى لا كما سعى فيه الأعداء، فكذلك واقعة محمد صلى الله عليه وسلم فإن الله لما ضمن له إعلاء الدرجة لم يضره سعي الكفار في إبطال أمره...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان ذلك، توقع السامع له ما يكون بينه وبين إخوته هل يكتمهم الرؤيا أو يعلمهم بها؟ وعلى كلا التقديرين ما يكون؟ فقال تعالى جواباً لمن كأنه قال: ما كان من أمرهم؟ -مفتتحاً له بحرف التوقع والتحقيق بعد لام القسم تأكيداً للأمر وإعلاماً بأنه على أتقن وجه -: {لقد كان} أي كوناً هو في أحكم مواضعه {في يوسف وإخوته} أي بسبب هذه الرؤيا وما كان من تأويلها وأسباب ذلك {آيات} أي علامات عظيمة دالات على وحدانية الله تعالى ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم وغير ذلك مما تضمنته القصة {للسائلين} أي الذين يسألون عنها من قريش واليهود وغيرهم، وآيات عظمة الله وقدرته في تصديق رؤيا يوسف عليه الصلاة والسلام ونجاته ممن كاده وعصمته وإعلاء أمره،... والآية: الدلالة على ما كان من الأمور العظيمة، ومثلها العلامة والعبرة، و الحجة أخص منها، لأنها معتمد البينة التي توجب الثقة بصحة المعنى الذي فيه أعجوبة...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
أي لقد كان في قصة يوسف وإخوته لأبيه أنواع من الدلائل على أنواع من قدرة الله وحكمته، وتوفيق أقداره ولطفه بمن اصطفى من عباده، وتربيته لهم، وحسن عنايته بهم، للسائلين عنها، من الراغبين في معرفة الحقائق والاعتبار بها، لأنهم هم الذين يعقلون الآيات ويستفيدون منها، ومن فاته العلم بشيء أو بحكمته أو بوجه العبرة فيه سأل عنه من هو أعلم به منه، فإن للظواهر غايات لا تعلم حقائقها إلا منها، فإخوة يوسف لو لم يحسدوه لما ألقوه في غيابة الجب، ولو لم يلقوه لما وصل إلى عزيز مصر، ولو لم يعتقد العزيز بفراسته أمانته وصدقه لما أمنه على بيته ورزقه وأهله، ولو لم تراوده امرأة العزيز عن نفسه ويستعصم لما ظهرت نزاهته وعرف أمرها، ولو لم تخب في كيدها وكيد صواحبها من النسوة لما ألقي في السجن لإخفاء هذا الأمر، ولو لم يسجن لما عرفه ساقي ملك مصر وعرف براعته وصدقه في تعبير الرؤيا، ولو لم يعلم الساقي منه هذا لما عرفه ملك مصر وآمن به وله وجعله على خزائن الأرض، ولو لم يتبوأ هذا المنصب لما أمكنه أن ينقد أبويه وإخوته وأهله أجمعين من المخمصة ويأتي بهم إلى مصر فيشاركوه في رياسته ومجده، بل لما تم قول أبيه له {ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب} فما من حلقة من هذه السلسلة إلا وكان ظاهرها محرقا، وباطنها مشرقا، وبدايتها شرا وخسرا، وعاقبتها خيرا وفوزا، وصدق قول الله عز وجل {والعاقبة للمتقين} [الأعراف: 128]. فهذه أنواع من آيات الله في القصة للسائلين عن وقائعها الحسية الظاهرة، وما هو أعلى منها من علومها وحكمها الباطنة، كعلم يعقوب بتأويل رؤيا يوسف وعلمه يكذبهم بدعوى أكل الذئب له، ومن شهادة الله له بالعلم بقوله {وإنه لذو علم لما علمناه} [يوسف: 68] الآية، ومن شمه لريح يوسف منذ فصلت العير من أرض مصر قاصدة أرض كنعان، ومن علم يوسف بتأويل الأحاديث، ومن رؤيته لبرهان ربه، ومن كيد الله له ليأخذ أخاه بشرع الملك، ثم من علمه بأن إلقاء قميصه على أبيه يعيده بصيرا بعد عمى سنين كثيرة. في القصة مجال لسؤال السائلين عن كل هذه المعاني من العلم الروحاني، وهي أخفى مما قبلها، وأحق بالسؤال عنها...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
أي لقد كان شأن يوسف عليه السّلام وإخوته مقارناً لدلائل عظيمة من العبر والمواعظ، والتعريف بعظيم صنع الله تعالى وتقديره. والآيات: الدلائل على ما تتطلب معرفته من الأمور الخفية. والآيات حقيقة في آيات الطريق، وهي علامات يجعلونها في المفاوز تكون بادية لا تغمرها الرمال لتكون مرشدة للسائرين، ثم أطلقت على حجج الصدق، وأدلة المعلومات الدقيقة. وجمع الآيات هنا مراعى فيه تعدّدها وتعدّد أنواعها، ففي قصة يوسف عليه السّلام دلائل على ما للصّبر وحسن الطويّة من عواقب الخير والنصر، أو على ما للحسد والإضرار بالنّاس من الخيبة والاندحار والهبوط. وفيها من الدلائل على صدق النبي صلى الله عليه وسلم، وأنّ القرآن وحي من الله، إذ جاء في هذه السورة ما لا يعلمه إلاّ أحْبار أهل الكتاب دون قراءة ولا كتاب وذلك من المعجزات. وفي بلاغة نظمها وفصاحتها من الإعجاز ما هو دليل على أنّ هذا الكلام من صنع الله ألقاه إلى رسوله صلى الله عليه وسلم معجزة له على قومه أهل الفصاحة والبلاغة. والسائلون: مراد منهم مَن يُتوقع منه السؤال عن المواعظ والحكم كقوله تعالى: {في أربعة أياممٍ سواءً للسائلين} [سورة فصلت: 10]...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
، وقد ابتدأ الله سبحانه بالإشارة إلى ما في قصة يوسف عليه السلام من آيات بينات في تكوين النفوس والمجتمعات من أول الأسرة إلى المجتمع الإنساني الأكبر الذي يجمع العناصر المكونة للمجتمع الكبير والمجتمع الصغير، وفي الأسرة والحي. أول هذه الآيات بدءا وظهورا:"الحسد" الذي يعتري أولاد العلات أو أولاد الضرائر، وهو ظاهرة من الظواهر التي تبدو، ويحسب بعض الناس أنه داء لا علاج له، والسورة تشير إلى أنه داء، يمكن توقيه، وإذا وقع يمكن تحسين عواقبه، وأنه لا يصح لإبعاده، منع تعدد الضرائر، أو منع تعدد الزوجات. ولكن السورة أشارت إلى أن الوقاية منه هو منع ما يثيره، بإظهار المنزلة العالية، لبعض الأبناء، وإظهار البخس للآخرين أشار إلى ذلك قول يعقوب ليوسف: {لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا}. وإن هذا الحسد ليس حسدا متمكنا بحيث يبقى بين الإخوة ما داموا، بل إنه سرعان ما تقضي عليه المحبة التالية التي إن اختفت حينا، فلن تختفي طوال الحياة، وسرعان ما تكون، وهي الباقية، والأصل، والحسد عارض لا يدوم، ألم تر لقاء يوسف بإخوته ذلك اللقاء الحبيب، وهم يقولون: {... تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين91}.
والثانية: من الآيات النفسية. أنه لا يذهب بقوة الرجل غير الحزن الدفين المستكن في النفس، فهذا يعقوب الإنسان يمض نفسه الحزينة، حتى تبيض عيناه من الحزن وهو كظيم.
الثالثة: أن البشر بعد البؤس، والسرور بعد الألم يرد إلى النفس ما أذهبه الحزن، فإنه لما ألقي على وجهه قميص يوسف ارتد بصيرا؛ لأن الحزن قد ذهب إلى غير أوبة، والسرور يفعل فعله في الجسم فيزيل ما فعلته الكآبة فيه.
الرابعة: أنه في وسط ثورة الباطل وحدته في غلمان يعقوب وحسدهم لأخيهم وجد من يدعو إلى الرفق، ويستمع إليه، فقد اتفقوا على قتله، فجاء واحد منهم، وهم في حدة الحسد، وقال: {لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابة الجب يلتقطه بعض السيارة. 10}، وهذا يوحي إلى أن كلمة الرفق لها استجابة في أشد الإخوة عنفا.
الخامسة: إن أشد ما يثير الحسد، هو الإيثار بالمحبة، فإن إثارة الحسد، لا تكون بالإيثار بالطعام أو الشراب وإعطاء المال فقط، بل إن الإيثار بالمحبة أفعل وأشد، ألم تر أولئك الغلمان يقولون: إن يوسف وأخاه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة. السادسة: أن الصبا أقرب إلى حب الانتقام من كبر في السن، فشدة الصبا، معها شدة الجهالة وحب الانتقام، من غير نظر إلى العواقب، وأنت ترى صبيان يعقوب، وهم يحسدون يوسف قد بدله الله تعالى منهم رجالا يتحملون التبعات بعد أن أوشكوا أن يكونوا كهؤلاء أو كانوها.
السابعة: أنه لا يطفئ الحسد إلا المحبة القوية المانعة، ألم تر أن المحبة التي كانت تنبعث من قلب الأب الرفيق الشفيق كانت تنهنه من حدة الحسد فيهم، وقد بدا ذلك منهم عندما طلب يوسف أخاهم من أبيهم، فقالوا: {إن له أبا شيخا كبيرا فخذ أحدنا مكانه.78}، فهل كانت هذه حالهم عندما أخذوا يوسف، وألقوه في غيابة الجب بعد أن أرادوا قتله. وإن هذا يدل على أن حسد الإخوة مهما يكن مآله إلى زوال، وعوامل زواله أقوى من عوامل بقائه.
الثامنة: أن الدعوة إلى الخير لا يصح أن يكف عنها المؤمن مهما يكن في حال من البؤس والألم، ألم تر يوسف الصديق وهو في السجن، لم تشغله حاله عن الدعوة إلى التوحيد.
التاسعة: أن السورة تصور النفس الإنسانية في انحرافها، واستقامتها، ألم ترها تصور امرأة العزيز وقد انحرفت عن الجادة نحو فتاها، وأنه شغفها حبا، وإن ذلك يدل على فساد القصور في هذا العهد، وألا ترى أن في هذا دعوة لأن يحتاط أرباب البيوت فلا يجعلون في خدمهم جميلا؛ فإنهم يفسدون به نساءهم، ويفسدونهم، ويطمعونهم فيهم. وإن هذه الحال من شغف امرأة العزيز بيوسف، وردها، ومقاومة دواعي الهوى في شاب قوي فتي، يدل على أن الإرادة القوية الحازمة تكبح جماح الشهوة. العاشرة: أن السورة تصور نساء الطبقة المترفة في ذلك العصر لقد كن يشعن قالة السوء وينشرنها، غير ملتفتات إلى عواقب ما يقلن، وما أشبه الليلة بالبارحة، فإن ذلك لا يزال خلق المترفات من نساء مصر، وخصوصا أهل القصور.
الحادية العاشرة: أن الرؤيا الصادقة سبحة روحانية، وأنها تكون للمشركين كما تكون للمؤمنين، والإنسان ولو كان مشركا له روح، فقد رأى الفتيان صاحبا يوسف في السجن، رأيا رؤية كانت صادقة، فأول لهما يوسف الصديق الرؤيا، ووقعت كما أول.
الثانية عشر: أن يوسف عليه السلام، كان علمه لدنيا من الله تعالى، فما تعلم على أحد، وما درس، فقد فصل عن أبيه في سن دون سن التعلم، وعاش عيش العبيد، وهو "الكريم ابن الكريم"، وقد علمه الله تأويل الأحاديث، وعلمه تدبير السلطان، وخصوصا وقت أن تعقد الاقتصاد وتأزمت حلقاته.
الثالثة عشرة: أن مصر كانت مصدر الخير، لأهل الشرق، فكانت مزرعته الذي يقصد إليها في شدائده.
الرابعة عشرة: أن أرض الله يفيض خيرها بعضها على بعض، كما رأيت ما أفاضت به مصر على جيرانها، وكيف كانت تميرهم، وتمونهم.
الخامسة عشرة: أن الله تعالى له عبرة في خلقه، كيف جعل ذلك الأسير الذي باعوه بثمن بخس لأنهم لا يريدونه- ملكا مسيطرا على مصر، ومن حولها من بقاع الأرض.
السادسة عشرة: أن سيادة العدل تأتي بالخير والوفير، وأن الظلم لا يأتي إلا بالشر المستطير.
السابعة عشرة: أن الصفح الجميل علاج كل الآفات الاجتماعية ما دام الصفح عن قوى.
الثامنة عشرة: أن العز الحقيقي يجب أن يفيض على الأحباب حتى من ظلم، ولا يبخس لحق غيرهم كما فعل يوسف مع أبويه.
التاسعة عشرة: أنه يجب أن يخضع الكبير في سنه، لحكم الصغير في سنه ما دام عدلا، وقد رأيت خضوع يعقوب ليوسف، كما قال: {...
وخروا له سجدا...100} أي خاضعين؛ لا أنهم سجدوا له سجود الصلاة.
الآية المتممة للعشرين: شكر المنعم، كما فعل يوسف الصديق، فقد قال خاضعا خاشعا: {رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السموات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصلحين 101}. هذا ما نراه في معنى الآيات التي ذكرها الله سبحانه وتعالى في قوله: {لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين7}، أي للمتعرفين الذين يسألون عن معاني الحوادث وما ترمي إليه، وما تدل عليه. وقد ابتدأ سبحانه وتعالى قصتهم بذكر ما جالت به صدور إخوة يوسف وما نطقت به ألسنتهم...
أي: أن يوسف صار ظرفا للأحداث، لأن "في "تدل على الظرفية، ومعنى الظرفية أن هناك شيئا يظرف فيه شيء آخر، فكأن يوسف صار ظرفا ستدور حوله الأحداث بالأشخاص المشاركين فيها.وهذا يعني أن ما حدث إنما يلفت لقدرة الله سبحانه؛ فقد ألقي في الجب وأنقذ ليتربى في أرقى بيوت مصر. ونعلم أن كلمة آية تطلق على الأمر العجيب الملفت للنظر، وهي ترد بالقرآن بثلاثة معان: آية كونية: مثل الشمس والقمر والليل والنهار، وتلك الآيات الكونية رصيد للنظر في الإيمان بواجب الوجود وهو الله سبحانه؛ فساعة ترى الكون منتظما بتلك الدقة المتناهية؛ لا بد أن تفكر في ضرورة وجود خالق لهذا الكون. والآيات العجيبة الثانية هي المعجزات الخارقة للنواميس التي يأتي بها الرسل؛ لتدل على صدق بلاغهم عن الله، مثل النار التي صارت بردا وسلاما على إبراهيم، ومثل الماء الذي انفلق وصار كالطود العظيم أمام عصا موسى. وهناك المعنى الثالث لكلمة آية، والمقصود به آيات القرآن الكريم. وفي قول الحق سبحانه: {لقد كان في يوسف وإخوته آياته للسائلين} نستشف العبرة من كل ما حدث ليوسف الذي كاد له إخوته ليتخلصوا منه؛ لكن كيدهم انقلب لصالح يوسف. وفي كل ذلك سلوى لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لتثبيت فؤاده؛ فلا يعبر بالا لاضطهاد قومه له، وتآمرهم عليه، ورغبتهم في نفيه إلى الشام، ومحاولتهم قتله، ومحاولتهم مقاطعته، وقد صاروا من بعد ذلك يعيشون في ظلال كنفه. إذن: فلا تيأس يا محمد؛ لأن الله ناصرك بإذنه وقدرته، ولا تستبطئ نصر الله، أنت ومن معك، كما جاء في القرآن. {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب (214)} [البقرة] ويبين لنا الحق سبحانه ما حدث بيوسف بعد القهر الذي أصابه من إخوته، ويمر الوقت إلى أن تتحقق رؤيا الخير التي رآها يوسف عليه السلام. ويقال: إن رؤيا يوسف تحققت في فترة زمنية تتراوح بين أربعين سنة وثمانين عاما. ولذلك نجد رؤيا الخير يطول أمد تصديقها؛ ورؤيا الشر تكون سريعة؛ لأن من رحمة الله أن يجعل رؤيا الشر يقع واقعا وينتهي، لأنها لو ظلت دون وقوع لأمد طويل؛ لوقع الإنسان فريسة تخيل الشر بكل صوره. والشر لا يأتي إلا على صورة واحدة، ولكن الخير له صور متعددة؛ فيجعلك الله متخيلا لما سوف يأتيك من الخير بألوان وتآويل شتى. والمثل لدعوة الشر هو دعوة موسى على آل فرعون؛ حين قال: {ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم} [يونس 88] ويقول الحق سبحانه: {لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين} فكل يوم من أيام تلك القصة هناك آية وتجمع آيات. وهناك قراءة أخرى: "لقد كان في يوسف وإخوته آية للسائلين" أي: أن كل القصة بكل تفاصيلها وأحداثها آية عجيبة. والحق سبحانه أعطانا في القرآن مثلا على جمع الأكثر من آية في آية واحدة، مثلما قال: {وجعلنا ابن مريم وأمه آية} [المؤمنون 55] مع أن كلا منهما آية منفردة. ولك أن تنظر إلى قصة يوسف كلها على أنها آية عجيبة تشمل كل اللقطات، أو تنظر إلى كل لقطة على أنها آية بمفردها. ويقول الحق سبحانه في آخر هذه الآية أن القصة: {آيات للسائلين} والسائلون هنا إما من المشركين الذين حرضهم اليهود على أن يسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مسألة يوسف، وإما من المسلمين الذين يطلبون العبر من الأمم السابقة، وجاء الوحي لينزل على الرسول الأمي بتلك السورة بالأداء الرفيع المعجز الذي لا يقوى عليه بشر. وأنت حين تقرأ السورة؛ قد تأخذ من الوقت عشرين دقيقة، هات أنت أيّ إنسان ليتكلم ثلث ساعة، ويظل حافظا لما قاله؛ لن تجد أحدا يفعل ذلك؛ لكن الحق سبحانه قال لرسوله صلى الله عليه وسلم: {سنقرئك فلا تنسى} [الأعلى 6] ولذلك نجد الرسول صلى الله عليه وسلم يحفظ ما أنزل إليه من ربه، ويمليه على صحابته ويصلي بهم؛ ويقرأ في الصلاة ما أنزل عليه، ورغم أن في القرآن آيات متشابهات؛ إلا أنه صلى الله عليه وسلم لم يخطئ مرة أثناء قراءته للقرآن. والأمثلة كثيرة منها...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
وتبدأ القصة في حياة يوسف من موقع المعاناة الصعبة التي تجعله يعيش الكثير من الآلام، ويقع في العديد من المشاكل، ويصطدم في أكثر من موقف من مواقف الصراع النفسي على مستوى أخلاقه ومبادئه، ويدخل في كثير من مجالات الدعوة إلى الله، وينفتح على أجواء جديدة لا عهد له بها من قبل. ولكن النتائج الأخيرة تفتح له أبواب الخير بأوسع مجالاتها، وكان لإخوته دور شرّير، حاولوا فيه، الدفع به إلى الهلاك، وقد عاشوا حياتهم في جو بعيد عن الإيمان والأخلاق، ولما ضاقت بهم سبل الحياة لجأوا إلى أخيهم، وانتهى الأمر بهم للخضوع له، فانتصر الخير على الشر، والوداعة على التعقيد، والمحبّة على الحقد، انتصر يوسف في روحه ورسالته وإخلاصه لله. والآيات الواردة في السورة تبعث على التفكير، وتثير في النفس الكثير من المشاعر الروحية الطاهرة التي تدفع الإنسان إلى الرجوع إلى الله، والثقة به، في أشد حالات التحدي، وفي أقسى ألوان البلاء، فلا مجال لليأس، ولا موقع للانهيار والسقوط، وهذا ما أراد الله لنا أن نتمثله في هذه القصة الحافلة بألوان التعقيد في العلاقات الإنسانية بين الإخوة، والمليئة بالمشاعر الخانقة. أخذ العبرة {لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِّلسَّآئِلِينَ} الذين يريدون معرفة حقائق أمور الحياة، والاستفادة من تجارب الآخرين التي شاهدوها، أو سمعوها، ليضيفوا ذلك إلى ما يملكونه من تجارب ذاتية، ليتسع لهم جانب المعرفة بحركة المستقبل في حياتهم العامة والخاصة، وفي هذا إيحاء بالجانب الفكري للقصة، الذي يريد القرآن توجيه الإنسان إليه لأخذ العبرة منه، وعدم الاكتفاء بالجانب التفصيلي للأحداث بما تخفيه من لهو فكري وتسلية ذاتية، فالهدف الاستفادة من التفاعل الإنساني مع تجربة الآخرين لتحديد الخطوات العملية المستقبلية وما يصلح للحياة، أو ما لا يصلح لها، وهكذا تبدأ القصة في حياة يوسف وإخوته، بآلام يعانيها يوسف وتحدد ما يستقبله من أحداث...