{ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } بلين جانبك ، ولطف خطابك لهم ، وتوددك ، وتحببك إليهم ، وحسن خلقك والإحسان التام بهم ، وقد فعل صلى الله عليه وسلم ذلك كما قال تعالى : { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ } فهذه أخلاقه صلى الله عليه وسلم ، أكمل الأخلاق ، التي يحصل بها من المصالح العظيمة ، ودفع المضار ، ما هو مشاهد ، فهل يليق بمؤمن بالله ورسوله ، ويدعي اتباعه والاقتداء به ، أن يكون كلا على المسلمين ، شرس الأخلاق ، شديد الشكيمة عليهم ، غليظ القلب ، فظ القول ، فظيعه ؟ [ و ] إن رأى منهم معصية ، أو سوء أدب ، هجرهم ، ومقتهم ، وأبغضهم ، لا لين عنده ، ولا أدب لديه ، ولا توفيق ، قد حصل من هذه المعاملة ، من المفاسد ، وتعطيل المصالح ما حصل ، ومع ذلك تجده محتقرا لمن اتصف بصفات الرسول الكريم ، وقد رماه بالنفاق والمداهنة ، وقد كمَّل نفسه ورفعها ، وأعجب بعمله ، فهل هذا إلا من جهله ، وتزيين الشيطان وخدعه له ، ولهذا قال الله لرسوله : { فَإِنْ عَصَوْكَ } في أمر من الأمور ، فلا تتبرأ منهم ، ولا تترك معاملتهم ، بخفض الجناح ، ولين الجانب ، بل تبرأ من عملهم ، فعظهم عليه وانصحهم ، وابذل قدرتك في ردهم عنه ، وتوبتهم منه ، وهذا لدفع احتراز وهم من يتوهم ، أن قوله { وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ } للمؤمنين ، يقتضي الرضاء بجميع ما يصدر منهم ، ما داموا مؤمنين ، فدفع هذا بهذا والله أعلم .
ثم بين - سبحانه - لنبيه كيف يعامل العصاة فقال : { فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بريء مِّمَّا تَعْمَلُونَ } .
قال الآلوسى : الظاهر أن الضمير المرفوع فى { عَصَوْكَ } عائد على من أمر صلى الله عليه وسلم بإنذارهم ، وهم العشيرة . أى : فإن عصوك ولم يتبعوك بعد إنذارهم ، فقل إنى برئ من عملكم ، أو من دعائكم مع الله إلها آخر . وجوز أن يكون عائدا على الكفار المفهوم من السياق .
وقيل : هو عائد على من اتبع من المؤمنين . أى : فإن عصوك يا محمد فى الأحكام وفروع الإسلام ، بعد تصديقك والإيمان بك وتواضعك لهم ، فقل إنى برئ مما تعملون من المعاصى . . .
وكان هذا فى مكة ، قبل أن يؤمر صلى الله عليه وسلم بقتال المشركين .
ثم قال تعالى آمرًا لرسوله ، صلوات الله وسلامه عليه{[21876]} أن ينذر عشيرته الأقربين ، أي : الأدنين إليه ، وأنه لا يُخَلِّص أحدًا منهم إلا إيمانهُ بربه عز وجل ، وأمره أن يلين جانبه لمن اتبعه من عباد الله المؤمنين . ومن عصاه من خلق الله كائنًا مَنْ كان فليتبرأ منه ؛ ولهذا قال : { . فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ } . وهذه النِّذارة الخاصة لا تنافي العامة ، بل هي فرد من أجزائها ، كما قال : { لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ } [ يس : 6 ] ، وقال : { لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا } [ الشورى : 7 ] ، وقال : { وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ } [ الأنعام : 51 ] ، وقال : { لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا } [ مريم : 97 ] ، وقال : { لأنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ } [ الأنعام : 19 ] ، كما قال : { وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ } [ هود : 17 ] .
وفي صحيح مسلم : " والذي نفسي بيده ، لا يسمع بي أحدٌ من هذه الأمة ، يهودي ولا نصراني ، ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار " .
وقد وردت أحاديث كثيرة في نزول هذه الآية الكريمة ، فلنذكرها :
قال الإمام أحمد ، رحمه الله : حدثنا عبد الله بن نُمَيْر ، عن الأعمش ، عن عمرو بن مُرَّة ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس قال : لما أنزل الله ، عز وجل : { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ } ، أتى النبي صلى الله عليه وسلم الصفا فصعد عليه ، ثم نادى : " يا صباحاه " . فاجتمع الناس إليه بين رجل يجيء إليه ، وبين رجل يبعث رسوله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا بني عبد المطلب ، يا بني فهر ، يا بني لؤي ، أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا بسفح هذا الجبل ، تريد أن تغير عليكم ، صدقتموني ؟ " . قالوا : نعم . قال : " فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد " . فقال أبو لهب : تبًّا لك سائر اليوم ، أما دعوتنا إلا لهذا ؟ وأنزل الله : { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ } [ المسد : 1 ] .
ورواه البخاري ومسلم والنسائي والترمذي ، من طرق ، عن الأعمش ، به{[21877]} .
قال الإمام أحمد : حدثنا وكيع ، حدثنا هشام ، عن أبيه ، عن عائشة قالت : لما نزلت : { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ } ، قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " يا فاطمة ابنة محمد ، يا صفية ابنة عبد المطلب ، يا بني عبد المطلب ، لا أملك لكم من الله شيئا ، سلوني من مالي ما شئتم " . انفرد بإخراجه مسلم{[21878]} .
قال أحمد : حدثنا معاوية بن عمرو ، حدثنا زائدة ، حدثنا عبد الملك بن عُمَير ، عن موسى بن طلحة ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : لما نزلت هذه الآية : { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ } ، دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم [ قريشا ]{[21879]} ، فعمَّ وخصَّ ، فقال : " يا معشر قريش ، أنقذوا أنفسكم من النار . يا معشر بني كعب ، أنقذوا أنفسكم من النار . يا معشر بني عبد مناف ، أنقذوا أنفسكم من النار . يا معشر بني هاشم ، أنقذوا أنفسكم من النار . يا معشر بني عبد المطلب ، أنقذوا أنفسكم من النار . [ يا فاطمة بنت محمد ، أنقذي نفسك من النار ]{[21880]} ، فإني - والله - ما أملك لكم من الله شيئا ، إلا أن لكم رَحمًا سأبُلها بِبلالها " .
ورواه مسلم والترمذي ، من حديث عبد الملك بن عمير ، به{[21881]} . وقال الترمذي : غريب من هذا الوجه . ورواه النسائي من حديث موسى بن طلحة مرسلا لم يذكر فيه أبا هريرة{[21882]} . والموصول هو الصحيح . وأخرجاه في الصحيحين من حديث الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، وأبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن أبي هريرة{[21883]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد ، حدثنا محمد - يعني ابن إسحاق - عن أبي الزنَاد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا بني عبد المطلب ، اشتروا أنفسكم من الله . يا صفية عمة رسول الله ، ويا فاطمة بنت رسول الله ، اشتريا أنفسكما من الله ، لا أُغني عنكما من الله شيئًا ، سلاني من مالي ما شئتما " .
تفرد به من هذا الوجه{[21884]} . وتفرد به أيضا ، عن معاوية ، عن زائدة ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه{[21885]} . ورواه أيضًا عن حسن ، ثنا ابن لَهِيعة ، عن{[21886]} الأعرج : سمعت أبا هريرة مرفوعا{[21887]} .
وقال أبو يعلى : حدثنا سُوَيد بن سَعيد ، حدثنا{[21888]} ضِمَام بن إسماعيل ، عن موسى بن وَرْدَان ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : " يا بني قُصَي ، يا بني هَاشم ، يا بني عبد مناف . أنا النذير والموت المغير . والساعة الموعد " {[21889]} .
قال أحمد : حدثنا يحيى بن سعيد ، حدثنا التيمي ، عن أبي عثمان ، عن قَبِيصة بن مُخَارق وزُهَير بن عمرو قالا لما نزلت : { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ } صَعد رسول الله صلى الله عليه وسلم رَضْمَةً من جبل على أعلاها حجر ، فجعل ينادي : " يا بني عبد مناف ، إنما أنا نذير ، إنما مثلي ومثلكم كرجل رأى العدو ، فذهب يربأ أهله ، يخشى أن يسبقوه ، فجعل ينادي ويهتف : يا صباحاه " .
ورواه مسلم والنسائي ، من حديث سليمان بن طِرْخان التيمي ، عن أبي عثمان عبد الرحمن بن مُل النَّهْديّ ، عن قَبِيصة وزُهيَر بن عَمْرو الهلالي ، به{[21890]} .
قال الإمام أحمد : حدثنا أسود بن عامر ، حدثنا شَرِيك عن الأعمش ، عن المْنهَال ، عن عباد بن عبد الله الأسدي ، عن علي ، رضي الله عنه ، قال : لما نزلت هذه الآية : { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ } جمع النبي صلى الله عليه وسلم من أهل بيته ، فاجتمع ثلاثون ، فأكلوا وشربوا قال : وقال لهم : " من يَضْمَنُ عَني ديني ومواعيدي ، ويكون معي في الجنة ، ويكون خليفتي في أهلي ؟ " . فقال رجل - لم يسمه شريك - يا رسول الله ، أنت كنت بحرًا{[21891]} من يقوم بهذا ؟ قال : ثم قال الآخر ، قال : فعرض ذلك على أهل بيته ، فقال عَليٌ : أنا{[21892]} .
طريق أخرى بأبسط من هذا السياق : قال أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا أبو عَوَانة ، عن عثمان بن المغيرة ، عن أبي صادق ، عن ربيعة بن ناجذ ، عن علي ، رضي الله عنه ، قال : جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم - أو دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم - بني عبد المطلب ، وهم رَهْطٌ ، كلهم يأكل الجذعة ويشرب الفّرَق - قال : وصنع{[21893]} لهم مدًا من طعام فأكلوا حتى شبعوا - قال : وبقي الطعام كما هو كأنه لم يمس . ثم دعا بغُمَرٍ{[21894]} فشربوا حتى رووا ، وبقي الشراب كأنه لم يمس - أولم يشرب - وقال : " يا بني عبد المطلب ، إني بعثت إليكم خاصة وإلى الناس عامة ، وقد رأيتم من هذه الآية ما رأيتم ، فأيكم يبايعني على أن يكون أخي وصاحبي ؟ " . قال : فلم يقم إليه أحد . قال : فقمتُ إليه - وكنت أصغر القوم - قال : فقال : " اجلس " . ثم قال ثلاث مرات ، كل ذلك أقوم إليه فيقول لي : " اجلس " . حتى كان في الثالثة ضرب بيده على يدي{[21895]} .
طريق أخرى أغرب وأبسط من هذا السياق بزيادات أخر : قال الحافظ أبو بكر البيهقي في " دلائل النبوة " : أخبرنا محمد بن عبد الله الحافظ ، حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ، حدثنا أحمد بن عبد الجبار ، حدثنا يُونُس بن بُكَيْر ، عن محمد بن إسحاق قال : فحدثني من سمع عبد الله بن الحارث بن نوفل - واستكتمني اسمه - عن ابن عباس ، عن علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه ، قال : لما نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم : { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " عرفت أنّي إن بادأتُ بها قومِي ، رأيت منهم ما أكره ، فَصَمَتُّ . فجاءني جبريل ، عليه السلام ، فقال : يا محمد ، إن لم تفعل ما أمرك به ربك عذبك ربك " . قال علي ، رضي الله عنه : فدعاني فقال : " يا علي ، إن الله قد أمرني [ أن ]{[21896]} أنذر عشيرتي الأقربين ، فعرفت أني إن بادأتهم بذلك رأيت منهم ما أكره ، فَصَمت عن ذلك ، ثم جاءني جبريل فقال : يا محمد ، إن لم تفعل ما أمرت به عذبك ربك . فاصنع لنا يا علي شاة على صاع من طعام ، وأعدّ لنا عُسَّ لبن ، ثم اجمع لي{[21897]} بني عبد المطلب " . ففعلتُ فاجتمعوا له ، وهم يومئذ أربعون رجلا يزيدون رجلا أو ينقصون رجلا . فيهم أعمامه : أبو طالب ، وحمزة ، والعباس ، وأبو لهب الكافر الخبيث . فقدّمت إليهم تلك الجَفْنَةَ ، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم منها حِذْيَة فشقها بأسنانه ثم رمى بها في نواحيها ، وقال : " كلوا بسم الله " . فأكل القومُ حتى نَهلوا عنه ما يرى إلا آثار أصابعهم ، والله إن كان الرجل منهم ليأكل مثلها . ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اسقهم يا علي " . فجئت بذلك القَعب فشربوا منه حتى نَهِلُوا جميعًا ، وايم الله إن كان الرجل منهم ليشرب مثله . فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكلمهم ، بَدَره أبو لهب إلى الكلام فقال : لَهَدّ ما سحركم صاحبكم . فتفرقوا ولم يكلّمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم . فلما كان الغدُ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا علي ، عُدْ لنا بمثل الذي كنت صنعت بالأمس من الطعام والشراب ؛ فإن هذا الرجلّ قد بَدَرني إلى ما سمعتَ قبل أن أكلم القوم " . ففعلت ، ثم جمعتهم له ، فصنع رسول الله صلى الله عليه وسلم كما صنع بالأمس ، فأكلوا حتى نَهِلُوا عنه ، وايم الله إن كان الرجل منهم ليأكل مثلها . ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اسقهم يا علي " . فجئت بذلك القَعب فشربوا منه حتى نهلوا جميعًا . وايم الله إن كان الرجل منهم ليشرب مثله . فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكلمهم بَدَره أبو لهب بالكلام فقال : لَهَدَّ ما سحركم صاحبكم . فتفرقوا ولم يكلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم . فلما كان الغد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا علي ، عُدْ لنا بمثل الذي كنت صنعتَ لنا بالأمس من الطعام والشراب ؛ فإن هذا الرجل قد بَدَرني إلى ما سمعتَ قبل أن أكلم القوم " . ففعلت ، ثم جمعتهم له فصنع رسول الله صلى الله عليه وسلم [ كما صنع ]{[21898]} بالأمس ، فأكلوا حتى نهلوا عنه ، ثم سقيتهم من ذلك القعب حتى نهلوا عنه ، وايم الله إن كان الرجل منهم ليأكل مثلها ويشرب مثلها ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا بني عبد المطلب ، إني - والله - ما أعلم شابًا من العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به ، إني قد جئتكم بأمر الدنيا والآخرة " .
قال أحمد بن عبد الجبار : بلغني أن ابن إسحاق إنما{[21899]} سمعه من عبد الغفار بن القاسم أبي مريم ، عن المنهال بن عمرو ، عن عبد الله بن الحارث{[21900]} .
وقد رواه أبو جعفر بن جرير ، عن ابن حميد ، عن سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن عبد الغفار بن القاسم ، عن المنهال بن عمرو ، عن عبد الله بن الحارث ، عن ابن عباس ، عن علي بن أبي طالب ، فذكر مثله ، وزاد بعد قوله : " إني جئتكم بخير الدنيا والآخرة " . " وقد أمرني الله أن أدعوكم إليه ، فأيكم يؤازرني{[21901]} على هذا الأمر على أن يكون أخي ، وكذا وكذا " ؟ قال : فأحجم القوم عنها جميعًا ، وقلت - وإني لأحدثهم سنًا ، وأرمصُهم عينا ، وأعظمهم بطنا ، وأحمشهم ساقا . أنا يا نبي الله ، أكون وزيرك عليه ، فأخذ يَرْقُبُني ثم قال : " إن هذا أخي ، وكذا وكذا ، فاسمعوا له وأطيعوا " . قال : فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب : قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع{[21902]} .
تفرد بهذا السياق عبد الغفار بن القاسم أبي مريم ، وهو متروك كذاب شيعي ، اتهمه علي بن المديني وغيره بوضع الحديث ، وضعّفه الأئمة رحمهم الله .
طريق أخرى : قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا الحسين بن عيسى بن مَيْسَرة الحارثي ، حدثنا عبد الله بن عبد القدوس ، عن الأعمش ، عن المنهال بن عمرو ، عن عبد الله بن الحارث قال : قال علي رضي الله عنه : لما نزلت هذه الآية : { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ } ، قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اصنع لي رجل شاة بصاع من طعام وإناء لبنا " . قال : ففعلت ، ثم قال : " ادع بني هاشم " . قال : فدعوتهم وإنهم يومئذ لأربعون غير رجل - أو : أربعون ورجل - قال : وفيهم عشرة كلهم يأكل الجذَعَة بإدامها . قال : فلما أتوا بالقصعة أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذرْوَتها ثم قال : " كلوا " ، فأكلوا حتى شبعوا ، وهي على هيئتها{[21903]} لم يرزؤوا منها إلا يسيرًا ، قال : ثم أتيتهم بالإناء فشربوا حتى رَوُوا . قال : وفَضَل فَضْلٌ ، فلما فرغوا أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتكلم ، فبدرُوه الكلام ، فقالوا : ما رأينا كاليوم في السحر . فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال : " اصنع [ لي ]{[21904]} رجل شاة بصاع من طعام " . فصنعت ، قال : فدعاهم ، فلما أكلوا وشربوا ، قال : فبدروه فقالوا مثل مقالتهم الأولى ، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال لي : " اصنع [ لي ]{[21905]} رجل شاة بصاع من طعام . فصنعت ، قال : فجمعتهم ، فلما أكلوا وشربوا بَدَرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الكلام فقال : " أيكم يقضي عني دَيني{[21906]} ويكون خليفتي في أهلي ؟ " . قال : فسكتوا وسكت العباس خشية أن يحيط ذلك بماله ، قال : وسكتُّ أنا لسِنّ العباس . ثم قالها مرة أخرى فسكت العباس ، فلما رأيت ذلك قلت : أنا يا رسول الله . [ فقال : " أنت " ] {[21907]} قال : وإني يومئذ لأسوأهم هيئة ، وإني لأعمش العينين ، ضخم البطن ، حَمْش الساقين .
فهذه طرق متعددة لهذا الحديث عن علي ، رضي الله عنه . ومعنى سؤاله ، عليه الصلاة والسلام{[21908]} لأعمامه وأولادهم أن يقضوا عنه دينه ، ويخلفوه في أهله ، يعني إن قتل في سبيل الله ، كأنه خشي إذا قام بأعباء الإنذار أن يقتل ، ولما أنزل الله عز وجل : { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } [ المائدة : 67 ] ، فعند ذلك أمِن .
وكان أولا يحرس حتى نزلت هذه الآية : { وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } . ولم يكن في بني هاشم إذ ذاك أشد إيمانا وإيقانا وتصديقا لرسول الله صلى الله عليه وسلم من علي ، رضي الله عنه ؛ ولهذا{[21909]} بدرهم إلى التزام ما طلب منهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ، ثم كان بعد هذا - والله أعلم - دعاؤه الناس جَهرًة على الصفا ، وإنذاره لبطون قريش عموما وخصوصا ، حتى سَمّى مَنْ سَمَّى من أعمامه وعماته وبناته ، لينبه بالأدنى على الأعلى ، أي : إنما أنا نذير ، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم .
وقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة عبد الواحد الدمشقي - غير منسوب - من طريق عمرو بن سَمُرَةَ ، عن محمد بن سُوقَةَ ، عن عبد الواحد الدمشقي قال : رأيت أبا الدرداء ، رضي الله عنه ، يحدث الناس ويفتيهم ، وولده إلى جنبه ، وأهل بيته جلوس في جانب المسجد يتحدثون ، فقيل له : ما بال الناس يرغبون فيما عندك من العلم ، وأهل بيتك جلوس لاهين ؟ فقال : لأني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " أزهد الناس في الدنيا الأنبياء ، وأشدهم عليهم الأقربون " . وذلك فيما أنزل الله ، عز وجل : { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ } ، ثم قال : " إن أزهد الناس في العالم أهله حتى يفارقهم " . ولهذا قال [ الله تعالى ] :{[21910]} { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ . وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ . فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ } {[21911]} .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنّي بَرِيَءٌ مّمّا تَعْمَلُونَ * وَتَوكّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرّحِيمِ * الّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلّبَكَ فِي السّاجِدِينَ * إِنّهُ هُوَ السّمِيعُ الْعَلِيمُ } .
يقول تعالى ذكره : فإن عصتك يا محمد عشيرتك الأقربون الذين أمرتك بإنذارهم ، وأبوا إلا الإقامة على عبادة الأوثان ، والإشراك بالرحمن ، فقل لهم : إنّي بَرِيءٌ مِمّا تَعْمَلُونَ من عبادة الأصنام ومعصية باريء الأنام وَتَوَكّلْ عَلى العَزِيزِ في نقمته من أعدائه الرّحِيمِ بمن أناب إليه وتاب من معاصيه ، الّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ يقول : الذي يراك حين تقوم إلى صلاتك . وكان مجاهد يقول في تأويل ذلك ما :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج عن مجاهد ، قوله : الّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ قال : أينما كنت .
وَتَقَلّبَكَ فِي السّاجِدِينَ اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معنى ذلك : ويرى تقلبك في صلاتك حين تقوم ، ثم تركع ، وحين تسجد . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : وَتَقَلّبَكَ فِي السّاجِدِينَ يقول : قيامك وركوعك وسجودك .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، قال : سمعت أبي وعليّ بن بذيمة يحدّثان عن عكرِمة في قوله : يَراكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلّبَكَ فِي السّاجِدِينَ قال : قيامه وركوعه وسجوده .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، قال : قال عكرِمة ، في قوله : وَتَقَلّبَكَ فِي السّاجِدِينَ قال : قائما وساجدا وراكعا وجالسا .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : ويرى تقلبك في المصلين ، وإبصارك منهم من هو خلفك ، كما تبصر من هو بين يديك منهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد وَتَقَلّبَكَ فِي السّاجِدِينَ كان يرى من خلفه ، كما يرى من قدّامه .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله وَتَقَلّبَكَ فِي السّاجِدِينَ قال : المصلين كان يرى مَن خلفه في الصلاة .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، قوله وَتَقَلّبَكَ فِي السّاجِدِينَ قال : المصلين ، قال : كان يرى في الصلاة من خلفه .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : وتقلبك مع الساجدين : أي تصرفك معهم في الجلوس والقيام والقعود . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جُرَيج : أخبرني عطاء الخراساني عن ابن عباس ، قال : وَتَقَلّبَكَ فِي السّاجِدِينَ قال : يراك وأنت مع الساجدين تَقَلّب وتقوم وتقعد معهم .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قَتادة ، في قوله : وَتَقَلّبَكَ فِي السّاجِدِينَ قال : في المصلين .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَتَقَلّبَكَ فِي السّاجِدِينَ قال : في الساجدين : المصلين .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : ويرى تصرّفك في الناس . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا يحيى ، قال : حدثنا ربيعة بن كلثوم ، قال : سألت الحسن عن قوله : وَتَقَلّبَكَ فِي السّاجِدِينَ قال : في الناس .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : وتصرّفك في أحوالك كما كانت الأنبياء من قبلك تفعله ، والساجدون في قول قائل هذا القول : الأنبياء . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا ابن يمان ، عن أشعث ، عن جعفر ، عن سعيد ، في قوله : الّذِي يَرَاكَ . . . الاَية ، قال : كما كانت الأنبياء من قبلك .
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بتأويله قول من قال تأويله : ويرى تقلبك مع الساجدين في صلاتهم معك ، حين تقوم معهم وتركع وتسجد ، لأن ذلك هو الظاهر من معناه . فأما قول من وجّهه إلى أن معناه : وتقلبك في الناس ، فإنه قول بعيد من المفهوم بظاهر التلاوة ، وإن كان له وجه ، لأنه وإن كان لا شيء إلا وظله يسجد لله ، فإنه ليس المفهوم من قول القائل : فلان مع الساجدين ، أو في الساجدين ، أنه مع الناس أو فيهم ، بل المفهوم بذلك أنه مع قوم سجود ، السجودَ المعروف ، وتوجيه معاني كلام الله إلى الأغلب أولى من توجيهه إلى الأنكر . وكذلك أيضا في قول من قال : معناه : تتقلّب في أبصار الساجدين ، وإن كان له وجه ، فليس ذلك الظاهر من معانيه .
فتأويل الكلام إذن : وتوكل على العزيز الرحيم ، الذي يراك حين تقوم إلى صلاتك ، ويرى تقلبك في المؤتمين بك فيها بين قيام وركوع وسجود وجلوس .
وأمره بنذارة عشيرته تخصيصاً لهم إذ العشيرة مظنة المقاربة والطواعية . وإذ يمكنه معهم من الإغلاظ عليهم ما لا يحتمله غيره فإن البر بهم في مثل هذا الحمل عليهم والإنسان غير متهم على عشيرته . وكان هذا التخصيص مع الأمر العام بنذارة العالم . وروي عن ابن جريج أن المؤمنين من غير عشيرته في ذلك الوقت نالهم من هذا التخصيص وخروجهم منه فنزلت { واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين } ، ولما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه النذارة عظم موقع الأمر عليه وصعب ولكنه تلقاه بالجلد ، وصنع أشياء مختلفة كلها بحسب الأمر ، فمن ذلك أنه أمر علياً رضي الله عنه بأن يصنع طعاماً وجمع عليه بني جده عبد المطلب وأراد نذارتهم ودعوتهم في ذلك الجمع وظهر منه عليه السلام بركة في الطعام ، قال علي وهم يومئذ أربعون رجلاً ينقصون رجلاً أو يزيدونه ، فرماه أبو لهب بالسحر فوجم رسول الله صلى الله عليه وسلم وافترق جمعهم من غير شيء ، ثم جمعهم كذلك ثانية وأنذرهم ووعظهم فتضاحكوا ولم يجيبوا{[1]} ، ومن ذلك أنه نادى عمه العباس وصفية عمته وفاطمة ابنته وقال لهم : «لا أغنى عنكم من الله شيئاً إني لكم نذير بين يدي عذاب شديد » في حديث مشهور{[2]} ، ومن ذلك أنه صعد على الصفا أو أبي قبيس ونادى «يا بني عبد مناف واصباحاه » فاجتمع إليه الناس من أهل مكة فقال يا بني فلان حتى أتى على بطون قريش جميعاً ، فلما تكامل خلق كثير من كل بطن . قال لهم «رأيتم لو أخبرتكم أن خيلاً بسفح هذا الجبل تريد الغارة عليكم أكنتم مصدقي » قالوا نعم ، فإنا لم نجرب عليك كذباً ، فقال لهم «فإني لكم نذير بين يدي عذاب شديد » ، فقال له أبو لهب ألهذا جمعتنا تباً لك سائر اليوم فنزلت { تبت يدا أبي لهب }{[3]} [ المسد : 1 ] السورة ، و «العشيرة » قرابة الرجل وهي في الرتبة تحت الفخذ وفوق الفصيلة ، وخفض الجناح استعارة معناه لين الكلمة وبسط الوجه والبر .
والضمير في { عصوك } عائد على عشيرته من حيث جمعت رجالاً فأمره الله بالتبري منهم{[4]} وفي هذه الآية موادعة نسختها آية السيف .
تفريع على جملة : { وأنذر عشيرتك الأقربين } [ الشعراء : 214 ] أي فإن عصوا أمرك المستفاد من الأمر بالإنذار ، أي فإن عصاك عشيرتك فما عليك إلا أن تتبرأ من عملهم ، وهذا هو مثار قول النبي صلى الله عليه وسلم لهم في دعوته : « غيرَ أن لكم رحماً سأبُلّها ببلالها » فالتبرؤ إنما هو من كفرهم وذلك لا يمنع من صلتهم لأجل الرحم وإعادة النصح لهم كما قال : { قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى } [ الشورى : 23 ] . وإنما أمر بأن يقول لهم ذلك لإظهار أنهم أهل للتبرؤ من أعمالهم فلا يقتصر على إضمار ذلك في نفسه .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{فإن عصوك} يعني بني هاشم، وبني عبد المطلب، فلم يجيبوك إلى الإيمان {فقل إني برئ مما تعملون} من الشرك والكفر.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: فإن عصتك يا محمد عشيرتك الأقربون الذين أمرتك بإنذارهم، وأبوا إلا الإقامة على عبادة الأوثان، والإشراك بالرحمن، فقل لهم:"إنّي بَرِيءٌ مِمّا تَعْمَلُونَ" من عبادة الأصنام ومعصية بارئ الأنام.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قالوا: إنه راجع إلى قوله: {وأنذر عشيرتك الأقربين} [الشعراء: 214] وموصول به؛ كأنه قال: وأنذر عشيرتك الأقربين. "فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون". قد كان رسول الله بريئا مما كان يعمل أولئك الكفرة. لكنه يحتمل أن يكون أولئك لما أنذرهم رسول الله طلبوا منه أن يطيعهم في بعض أمورهم، ويشاركهم في بعض أعمالهم حتى يطيعوا أولئك له في بعض ما يأمرهم، ويدعوهم إليه، ويشاركوه في بعض أعماله، فقال عند ذلك: {إني بريء} أي مما يدعونه إليه، ويطلبون منه مساعدته إياهم والإغماض عما يعملون.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
والبراءة: المباعدة من النصرة عند الحاجة، فإذا برئ من عملهم، فقد تباعد من النصرة لهم أو الموالاة.
جهود الإمام الغزالي في التفسير 505 هـ :
قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم في عشيرته: {فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون} ولم يقل إني بريء منكم مراعاة بحق القرابة ولحمة النسب..
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
" فإن عصوك "أي خالفوا أمرك. "فقل إني بريء مما تعملون "أي بريء من معصيتكم إياي؛ لأن عصيانهم إياه عصيان لله عز وجل، لأنه عليه السلام لا يأمر إلا بما يرضاه، ومن تبرأ منه فقد تبرأ الله منه.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
ولما كان الإنذار يترتب عليه إما الطاعة وإما العصيان، جاء التقسيم عليهما، فكان المعنى: أن من اتبعك مؤمناً، فتواضع له؛ فلذلك جاء قسيمه: {فإن عصوك} فتبرأ منهم ومن أعمالهم.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما أفهم ذلك أن هذا الحكم عام في جميع أحوالهم، فصل بقوله: {فإن عصوك} أي هم فغيرهم من باب الأولى {فقل} أي تاركاً لما كنت تعاملهم به حال الإيمان من اللين: {إني بريء} أي منفصل غاية الانفصال {مما تعملون} أي من العصيان الذي أنذر منه القرآن، وخص المؤمنين إعلاء لمقامهم، بالزيادة في إكرامهم، ليؤذن ذلك المزلزل بالعلم بحاله فيحثه ذلك على اللحاق بهم.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(فإن عصوك فقل: إني بريء مما تعملون).. وكان هذا في مكة، قبل أن يؤمر الرسول [صلى الله عليه وسلم] بقتال المشركين.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
تفريع على جملة: {وأنذر عشيرتك الأقربين} [الشعراء: 214] أي فإن عصوا أمرك المستفاد من الأمر بالإنذار، أي فإن عصاك عشيرتك فما عليك إلا أن تتبرأ من عملهم، وهذا هو مثار قول النبي صلى الله عليه وسلم لهم في دعوته: « غيرَ أن لكم رحماً سأبُلّها ببلالها» فالتبرؤ إنما هو من كفرهم وذلك لا يمنع من صلتهم لأجل الرحم وإعادة النصح لهم كما قال: {قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى} [الشورى: 23]. وإنما أمر بأن يقول لهم ذلك لإظهار أنهم أهل للتبرؤ من أعمالهم فلا يقتصر على إضمار ذلك في نفسه.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
ثمّ تأتي المرحلة الرّابعة وهي أن الأعداء لم يقبلوا دعوتك وعصوا أوامرك. فلا تبتئس ولا تحزن: (فإن عصوك فقل إنّي بريء ممّا تعملون)... ليعرفوا موقفك منهم! والظاهر أنّ الضمير في عصوك يعود على عشيرة النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الأقربين... أيْ إذا لم يذعنوا بعد دعوتك إياهم للحق، وواصلوا شركهم وعنادهم، فعليك أن تبيّن موقفك منهم، وهذا التوقع الذي احتمله القرآن حدث فعلا..