وجملة { ثُمَّ أولى لَكَ فأولى } مؤكدة للجملة الأولى . أى : أجدر بك هذا الهلاك الذى ينتظرك قريبا - أيها الإِنسان - الجاحد ، ثم أجدر بك ، لأنك أصررت على كل ما هو باطل وسوء .
قال القرطبى ما ملخصه : هذا تهديد بعد تهديد ، ووعيد بعد وعيد . .
روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من المسجد ذات يوم ، فاستقبله أبو جهل على باب المسجد ، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده ، فهزه مرة أو مرتين ثم قال : " أولى لك فأولى " فقال أبو جهل : أتهددنى - يا محمد - فو الله إنى لأعز أهل هذا الوادى وأكرمه ، ونزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال لأبى جهل .
وجئ بحرف " ثم " فى عطف الجملة الثانية على الأولى ، لزيادة التأكيد ، وللارتقاء فى الوعيد ، وللإِشعار بأن التهديد الثانى أشد من الأول ، كما فى قوله - تعالى - : { كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ . ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ }
والقرآن يواجه هذه الخيلاء الشريرة بالتهديد والوعيد :
( أولى لك فأولى . ثم أولى لك فأولى ) . .
وهو تعبير اصطلاحي يتضمن التهديد والوعيد ، وقد أمسك رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] بخناق أبي جهل مرة ، وهزه ، وهو يقول له : ( أولى لك فأولى . ثم أولى لك فأولى ) . . فقال عدو الله : أتوعدني يا محمد ? والله لا تستطيع أنت ولا ربك شيئا . وإني لأعز من مشى بين جبليها ! ! فأخذه الله يوم بدر بيد المؤمنين بمحمد [ صلى الله عليه وسلم ] وبرب محمد القوي القهار المتكبر . ومن قبله قال فرعون لقومه : ( ما علمت لكم من إله غيري ) . . وقال : ( أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي ? ) . . ثم أخذه الله كذلك .
وكم من أبي جهل في تاريخ الدعوات يعتز بعشيرته وبقوته وبسلطانه ؛ ويحسبها شيئا ؛ وينسى الله وأخذه . حتى يأخذه أهون من بعوضة ، وأحقر من ذبابة . . إنما هو الأجل الموعود لا يستقدم لحظة ولا يستأخر .
قال الله تعالى : { أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى } وهذا تهديد ووعيد أكيد منه تعالى للكافر به المتبختر في مشيته ، أي : يحق لك أن تمشي هكذا وقد كفرت بخالقك وبارئك ، كما يقال في مثل هذا على سبيل التهكم والتهديد كقوله : { ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ } [ الدخان : 49 ] . و كقوله : { كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ } [ المرسلات : 46 ] ، وكقوله { فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ } [ الزمر : 15 ] ، وكقوله { اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ } [ فصلت : 40 ] . إلى غير ذلك .
وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سنان الواسطي ، حدثنا عبد الرحمن - يعني ابن مهدي - عن إسرائيل ، عن موسى بن أبي عائشة قال : سألت سعيد بن جبير قلت : { أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى } ؟ قال : قاله النبي صلى الله عليه وسلم لأبي جهل ، ثم نزل به القرآن .
وقال أبو عبد الرحمن النسائي : حدثنا إبراهيم بن يعقوب{[29569]} . حدثنا أبو النعمان ، حدثنا أبو عَوَانة - ( ح ) وحدثنا أبو داود : حدثنا محمد بن سليمان{[29570]} . حدثنا أبو عوانة - عن موسى بن أبي عائشة ، عن سعيد بن جبير قال : قلت لابن عباس : { أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى } ؟ قال : قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم{[29571]} ثم أنزله الله عز وجل{[29572]} .
قال ابن أبي حاتم : وحدثنا أبي ، حدثنا هشام بن خالد ، حدثنا شعيب عن إسحاق ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى } وعيد على أثر وعيد ، كما تسمعون ، وزعموا أن عدو الله أبا جهل أخذ نَبيّ الله بمجامع ثيابه ، ثم قال : " أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى " . فقال عدو الله أبو جهل : أتوعدني يا محمد ؟ والله لا تستطيع أنت ولا ربك شيئا ، وإني لأعز من مشى بين جبليها .
وقوله أوْلَى لَكَ فأَوْلَى ثُمّ أوْلَى لَكَ فأَوْلَى هذا وعيد من الله على وعيد لأبي جهل ، كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة أوْلَى لَكَ فأَوْلَى ثُمّ أوْلَى لَكَ فأَوْلَى وعيد على وعيد ، كما تسمعون ، زعم أن هذا أنزل في عدوّ الله أبي جهل . ذُكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم أخذ بمجامع ثيابه فقال : أَوْلَى لَكَ فأَوْلى ثُمّ أَوْلَى لَكَ فأَوْلَى فقال عدوّ الله أبو جهل : أيوعدني محمد والله ما تستطيع لي أنت ولا ربك شيئا والله لأنا أعزّ من مشى بين جبليها . .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قال : أخذ النبيّ صلى الله عليه وسلم بيده ، يعني بيد أبي جهل ، فقال : أوْلَى لَكَ فأَوْلَى ثُمّ أوْلَى لكَ فأَوْلَى فقال : يا محمد ما تستطيع أنت وربك فيّ شيئا ، إني لأعزّ من مشى بين جبليها فلما كان يوم بدر أشرف عليهم فقال : لا يُعبد الله بعد هذا اليوم ، وضرب الله عنقه ، وقتله شرّ قِتلة .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : أوْلَى لَكَ فأَوْلَى ثُمّ أوْلَى لَكَ فأَوْلى قال : قال أبو جهل : إن محمدا ليوعدني ، وأنا أعزّ أهل مكة والبطحاء ، وقرأ فَلْيَدْعُ نادِيَهُ سَنَدْعُ الزّبانِيَةَ كَلاّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ واقْتَرِبْ .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن موسى بن أبي عائشة ، قال : قلت لسعيد بن جُبير : أشيء قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم من قِبَل نفسه ، أم أمر أمره الله به ؟ قال : بل قاله من قِبَل نفسه ، ثم أنزل الله : أوْلَى لَكَ فأَوْلَى ثُمّ أوْلَى لَكَ فأَوْلَى .
وقوله : { ثم أولى لك فأولى } تأكيد للدعاء عليه ولتأكيده السابق .
وجيء بحرف { ثم } لعطف الجملة دلالة على أن هذا التأكيد ارتقاء في الوعيد ، وتهديد بأشدَّ مما أفاده التهديد الأول وتأكيدُه كقوله تعالى : { كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون } [ التكاثر : 3 ، 4 ] .
وأحسب أن المراد : كُلُّ إنسان كافر كما يقتضيه أول الكلام من قوله { أيحسب الإِنسان أن لن نجمع عظامه } إلى قوله : { بل الإِنسان على نفسه بصيرة } [ القيامة : 3 14 ] ، وما أبو جهل إلاّ مِن أولهم ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم توعده باللفظ الذي أنزله الله تهديداً لأمثاله .
وكلمات المتقدمين في كون الشيء سبب نزول شيء من القرآن كلمات فيها تسامح .