ثم بين - سبحانه - سوء عاقبتهم فقال : { فَقَدْ كَذَّبُواْ فَسَيَأْتِيهِمْ أَنبَاءُ مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } .
أى : فقد كذبوا هؤلاء الجاحدون بالذكر الذى أتيتهم به - أيها الرسول الكريم - دون أن يكتفوا بالإعراض عنه ، فاصبر فسيأتهم أنباء العذاب الذى كانوا يستهزئون به عندما تحدثهم عنه ، وهو واقع بهم لا محالة ولكن فى الوقت الذى يشاؤه - سبحانه - .
وفى التعبير عن وقوع العذاب بهم ، بإتيان أنبائه وأخباره ، تهويل من شأن هذا العذاب ، وتحقيق لنزوله ، أى : فسيأتيهم لا محالة مصداق ما كانوا به يستهزئون ويصيرون هم أحاديث الناس يتحدثون بها ويتناقلون أنباءها .
ويعقب على هذا الإعراض عن ذكر الله ورحمته بالتهديد بعقابه وعذابه :
فقد كذبوا فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون . .
وهو تهديد مضمر مجمل مهول . وفي التعبير سخرية تناسب استهزاءهم بالوعيد . ( فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون ) . . ستأتيهم أخبار العذاب الذي يستهزئون به ! وهم لن يتلقوا أخبارا . إنما سيذوقون العذاب ذاته ، ويصبحون هم أخبارا فيه ، يتناقل الناس ما حل بهم منه . ولكنهم يستهزئون فيستهزأ بهم مع التهديد المرهوب !
القول في تأويل قوله تعالى : { فَقَدْ كَذّبُواْ فَسَيَأْتِيهِمْ أَنبَاءُ مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } .
يقول تعالى ذكره : فقد كذّب يا محمد هؤلاء المشركون بالذكر الذي أتاهم من عند الله ، وأعرضوا عنه فَسَيَأْتِيهِمْ أنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ يقول : فسيأتيهم أخبار الأمر الذي كانوا يسخرون ، وذلك وعيد من الله لهم أنه محلّ بهم عقابه على تماديهم في كفرهم ، وتمرّدهم على ربهم .
فاء { فقد كذبوا } فصيحة ، أي فقد تبين أن إعراضهم إعراض تكذيب بعد الإخبار عنهم بأن سنتهم الإعراض عن الذكر الآتي بعضه عقب بعض فإن الإعراض كان لأنهم قد كذبوا بالقرآن . وأما الفاء في قوله : { فسيأتيهم } فَلِتَعْقِيب الإخبار بالوعيد بعد الإخبار بالتكذيب .
والأنباء : جمع نبأ ، وهو الخبر عن الحدث العظيم ، وتقدم عند قوله تعالى { ولقد جاءك من نبأ المرسلين } في سورة الأنعام ( 34 ) .
والأنباء : ظهور صدقها ، وليس المراد من الإتيان هنا البلوغ كالذي في قوله : { وهل أتاك نَبَؤا الخصم } [ ص : 21 ] لأن بلوغ الأنباء قد وقع فلا يحكى بعلامة الاستقبال في قوله : { فسيأتيهم } .
و { ما } في قوله : { ما كانوا به يستهزءون } يجوز أن تكون موصولة فيجوز أن يكون ماصْدَقُها القرآن وذلك كقوله تعالى : { ولا تتخذوا آيات الله هُزؤاً } [ البقرة : 231 ] . وجيء في صلته بفعل { يستهزءون } دون ( يكذِّبون ) لتحصل فائدة الإخبار عنهم بأنهم كذَّبوا به واستهزأوا به ، وتكون الباء في { به } لتعدية فعل { يستهزءون } ، والضمير المجرور عائداً إلى { ما } الموصولة ، وأنباؤه أخباره بالوعيد . ويجوز أن يكون ما صدق { ما } جنسَ ما عُرفوا باستهزائهم به وهو التوعُّد ، كانوا يقولون : مَتى هذا الوعد ؟ ونحو ذلك .
وإضافة { أنبؤا } إلى { ما كانوا به يستهزءون } على هذا إضافة بيانية ، أي ما كانوا به يستهزئون الذي هو أنباء ما سيحلّ بهم .
وجمع الأنباء على هذا باعتبار أنهم استهزأوا بأشياء كثيرة منها البعث ، ومنها العذاب في الدنيا ، ومنها نصر المسلمين عليهم { ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين } [ يونس : 48 ] ، ومنها فتح مكة ، ومنها عذاب جهنم ، وشجرةُ الزقوم . وكان أبو جهل يقول : زقّمونا ، استهزاء .
ويجوز كون { ما } مصدرية ، أي أنباء كون استهزائهم ، أي حصوله ، وضمير { به } عائداً إلى معلوم من المقام ، وهو القرآن أو الرسول صلى الله عليه وسلم .
والمراد بأنباء استهزائهم أنباءُ جزَائه وعاقبته وهو ما توعدهم به القرآن في غير ما آية .
والقول في إقحام فعل { كانوا } هنا كالقول في إقحامه في قوله آنفاً { كانوا عنه معرضين } [ الشعراء : 5 ] ولكن أوثر الإتيان بالفعل المضارع وهو { يستهزءون } دون اسم الفاعل كالذي في قوله : { كانوا عنه معرضين } لأن الاستهزاء يتجدد عند تجدد وعيدهم بالعذاب ، وأما الإعراض فمتمكّن منهم .
ومعنى { فسيأتيهم أنبؤا ما كانوا به يستهزءون } على الوجه الأول أن يكون الإتيان بمعنى التحقق كما في قوله : { أتى أمر الله } [ النحل : 1 ] ، أي تحقّق ، أي سوف تتحقّق أخبار الوعيد الذي توعدهم به القرآن الذي كانوا يستهزئون به .
وعلى الوجه الثاني سوف تبلغهم أخبار استهزائهم بالقرآن ، أي أخبار العقاب على ذلك . وأوثر إفراد فعل « يأتيهم » مع أن فاعله جمع تكسير لغير مذكر حقيقي يجوز تأنيثه لأن الإفراد أخف في الكلام لكثرة دورانه .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{فقد كذبوا} بالحق، يعني: بالقرآن لما جاءهم، يعني: حين جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم {فسيأتيهم أنباء} يعني: حديث {ما كانوا به يستهزءون}، وذلك أنهم حين كذبوا بالقرآن، أوعدهم الله عز وجل بالقتل ببدر.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: فقد كذّب يا محمد هؤلاء المشركون بالذكر الذي أتاهم من عند الله، وأعرضوا عنه، "فَسَيَأْتِيهِمْ أنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ "يقول: فسيأتيهم أخبار الأمر الذي كانوا يسخرون، وذلك وعيد من الله لهم أنه محلّ بهم عقابه على تماديهم في كفرهم، وتمرّدهم على ربهم.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
أخبر الله تعالى عن هؤلاء الكفار الذين وصفهم بأنهم كذبوا بآيات الله وجحدوا رسوله وأنه سيأتيهم فيما بعد، يعني يوم القيامة أخبار "ما كانوا به يستهزئون "وإنما خص المكذب بإتيان الأنباء، مع أنها تأتي المصدق والمكذب، من حيث إن المكذب يعلم بها بعد أن كان جاهلا، والمصدق كان عالما بها، فلذلك حسن وعيد المكذب بها، لأن حاله يتغير إلى الحسرة والندم. والاستهزاء: السخرية، وهو طلب اللهو بما عند الطالب صغير القدر.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{فَسَيَأْتِيهِمْ} وعيد لهم وإنذار بأنهم سيعلمون إذا مسهم عذاب الله يوم بدر أو يوم القيامة {مَا} الشيء الذي كانوا يستهزئون به وهو القرآن، وسيأتيهم أنباؤه وأحواله التي كانت خافية عليهم.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان حال المعرض عن الشيء حال المكذب به قال: {فقد} أي فتسبب عن هذا الفعل منهم أنهم قد {كذبوا} أي حققوا التكذيب وقربوه كما تقدم آخر تلك، واستهزأوا مع التكذيب بآياتنا. ولما كان التكذيب بالوعيد سبباً في إيقاعه، وكان حالهم في تكذيبهم له صلى الله عليه وسلم حال المستهزئ لأن من كذب بشيء خف عنده قدره، فصار عرضة للهزء، قال مهدداً: {فسيأتيهم} سببه بالفاء وحققه بالسين، وقلل التنفيس عما في آخر الفرقان ليعلموا أن ما كذبوا به واقع. وأنه ليس موضعاً للتكذيب بوجه {أَنْبَاءُ} أي عظيم أخبار وعواقب {ما} أي العذاب الذي {كانوا} أي كوناً كأنهم جبلوا عليه {به} أي خاصة لشدة إمعانهم في حقه وحده {يستهزءون} أي يهزؤون، ولكنه عبر بالسين إشارة إلى أن حالهم في شدة الرغبة في ذلك الهزء حال الطالب له، وقد ضموا إليه التكذيب، فالآية من الاحتباك: ذكر التكذيب أولاً دليلاً على حذفه ثانياً، والاستهزاء ثانياً دليلاً على حذف مثله أولاً...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ويعقب على هذا الإعراض عن ذكر الله ورحمته بالتهديد بعقابه وعذابه:
فقد كذبوا فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون..
وهو تهديد مضمر مجمل مهول. وفي التعبير سخرية تناسب استهزاءهم بالوعيد. (فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون).. ستأتيهم أخبار العذاب الذي يستهزئون به! وهم لن يتلقوا أخبارا. إنما سيذوقون العذاب ذاته، ويصبحون هم أخبارا فيه، يتناقل الناس ما حل بهم منه. ولكنهم يستهزئون فيستهزأ بهم مع التهديد المرهوب!
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
ثمّ يضيف القرآن: أنّ هؤلاء لا يقفون عند حدود الإعراض، بل يتجاوزون إلى مرحلة التكذيب، بل إلى أشدّ منه ليصلوا إلى الاستهزاء به، فيقول: (فقد كذّبوا فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون).
«الأنباء»: جمع «نبأ»، أي الخبر المهمّ، والمراد من هذه الكلمة ما سيصيبهم من العقاب الشديد الدنيوي والأخروي...
وبغض النظر عن كل ذلك فإنّ للكفر والإِنكار انعكاسات واسعة وشاملة في جميع حياة الإنسان... فكيف يمكن السكوت عنها!
والتحقيق في هذه الآية والآية السابقة يكشف أن الإنسان حين ينحرف عن الجادة المستقيمة فإنّه يفصل نفسه عن الحق بشكل مستمر.
ففي المرحلة الأُولى يعرض عن الحق ويصرف بوجهه عنه... ثمّ بالتدريج يبلغ مرحلة الإنكار والتكذيب.. ثمّ يتجاوز هذه المرحلة إلى السخرية والاستهزاء... ونتيجةً لذلك ينال عقاب الله وجزاءه..