فقال موسى عليه السلام ، معتذرا من ربه ، ومبينا لعذره ، وسائلا له المعونة على هذا الحمل الثقيل : { قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسَانِي } .
فقال : { رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي } { فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ } فأجاب الله طلبته ونبأ أخاه هارون كما نبأه { فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا } أي معاونا لي على أمري أن يصدقوني
ولم يكن أمر فرعون وملئه جديدا على موسى - عليه السلام - فهو يعرفه ، ويعرف ظلم فرعون وعتوه وجبروته ، ويدرك أنها مهمة ضخمة وتكليف عظيم . ومن ثم يشكو إلى ربه ما به من ضعف وقصور لا ليتنصل أو يعتذر عن التكليف ، ولكن ليطلب العون والمساعدة في هذا التكليف العسير .
( قال : رب إني أخاف أن يكذبون . ويضيق صدري ولا ينطلق لساني فأرسل إلى هارون . ولهم علي ذنب فأخاف أن يقتلون ) .
والظاهر من حكاية قوله - عليه السلام - أن خوفه ليس من مجرد التكذيب ، ولكن من حصوله في وقت يضيق فيه صدره ولا ينطلق لسانه فلا يملك أن يبين ، وأن يناقش هذا التكذيب ويفنده . إذ كانت بلسانه حبسة هي التي قال عنها في سورة طه : ( واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي )ومن شأن هذه الحبسة أن تنشى ء حالة من ضيق الصدر ، تنشأ من عدم القدرة على تصريف الانفعال بالكلام . وتزداد كلما زاد الانفعال ، فيزداد الصدر ضيقا . . وهكذا . . . وهي حالة معروفة . فمن هنا خشي موسى أن تقع له هذه الحالة وهو في موقف المواجهة بالرسالة لظالم جبار كفرعون . فشكا إلى ربه ضعفه وما يخشاه على تبليغ رسالته ، وطلب إليه أن يوحي إلى هارون أخيه ، ويشركه معه في الرسالة اتقاء للتقصير في أداء التكليف ، لا نكوصا ولا اعتذارا عن التكليف . فهارون أفصح لسانا ومن ثم هو أهدأ انفعالا ؛ فإذا أدركت موسى حبسة أو ضيق نهض هارون بالجدل والمحاجة والبيان . ولقد دعا موسى ربه - كما ورد في سورة طه - ليحل هذه العقدة من لسانه ، ولكنه زيادة في الاحتياط للنهوض بالتكليف طلب معه أخاه هارون وزيرا ومعينا . .
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ رَبّ إِنّيَ أَخَافُ أَن يُكَذّبُونِ * وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلاَ يَنطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَىَ هَارُونَ * وَلَهُمْ عَلَيّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ } .
يقول تعالى ذكره : قالَ موسى لربه رَبّ إنّي أخافُ من قوم فرعون الذين أمرتني أن آتيهم أنْ يُكَذّبُونِ بقيلي لهم : إنك أرسلتني إليهم وَيَضِيقُ صَدْرِي من تكذيبهم إياي إن كّذبوني . ورفع قوله : وَيَضيقُ صَدْرِي عطفا به على أخاف ، وبالرفع فيه قرأته عامة قرّاء الأمصار ، ومعناه : وإني يضيق صدري . وقوله : وَلا يَنْطَلقُ لسانِي يقول : ولا ينطلق بالعبارة عما ترسلني به إليهم ، للعلة التي كانت بلسانه . وقوله : وَلا يَنْطَلق لِسانِي كلام معطوف به على يضيق . ) وقوله : فأَرْسِلْ إلى هارُونَ يعني هارون أخاه ، ولم يقل : فأرسل إليّ هارون ليؤازرني وليعينني ، إذ كان مفهوما معنى الكلام ، وذلك كقول القائل : لو نزلت نازلة لفزعنا إليك ، بمعنى : لفزعنا إليك لعتيننا . )
{ قال رب إني أخاف أن يكذبون ويضيق صدري ولا ينطلق لساني فأرسل إلى هارون } رتب استدعاء ضم أخيه إليه وإشراكه له في الأمر على الأمور الثلاثة : خوف التكذيب وضيق القلب انفعالا عنه ، وازدياد الحبسة في اللسان بانقباض الروح إلى باطن القلب عند ضيقه بحيث لا ينطلق لأنها إذا اجتمعت مست الحاجة إلى معين يقوي قلبه وينوب منابه متى تعتريه حبسة حتى لا تختل دعوته ولا تنبثر حجته ، وليس ذلك تعللا منه وتوقفا في تلقي الأمر ، بل طلبا لما يكون معونة على امتثاله وتمهيد عذره فيه ، وقرأ يعقوب { ويضيق } { ولا ينطلق } بالنصب عطفا على{ يكذبون } فيكونان من جملة من خاف منه .
وقرأ جمهور الناس «ويضيقُ » بالرفع و «ينطلقُ » كذلك ، وقرأ الأعرج وطلحة وعيسى ذلك بالنصب فيهما ، فقراءة الرفع هي إخبار من موسى بوقوع ضيق صدره وعدم انطلاق لسانه ، وبهذا رجح أبو علي هذه القراءة ، وقراءة النصب تقتضي أن ذلك داخل تحت خوفه وهو عطف على { يكذبون } ، وكان في خلق موسى عليه السلام حد وكان في لسانه حبسة بسبب الجمرة في طفولته ، وحكى أبو عمرو عن الأعرج أنه قرأ بنصب «ويضيقَ » وبرفع «ينطلقُ » وقد يكون عدم انطلاق اللسان بالقول لغموض المعاني التي تطلب لها ألفاظ محررة ، فإذا كان هذا في وقت ضيق صدر ولم ينطلق اللسان ، وقد قال موسى عليه السلام { واحلل عقدة من لساني }{[8911]} [ طه : 27 ] فالراجح قراءة الرفع ، وقوله تعالى : { فأرسل إلى هارون } معناه يعينني ويؤازرني ، وكان هارون عليه السلام فصيحاً واسع الصدر ، فحذف بعض المراد من القول إذ باقيه دال عليه .
{ يضيق صدري } قرأه الجمهور بالرفع فهو عطف على { أخاف } أو تكون الواو للحال فتكون حالاً مقدرة ، أي والحال يضيق ساعتئذ صدري من عدم اهتدائهم .
والضَيق : ضد السعة ، وهو هنا مستعار للغضب والكمد لأن من يعتريه ذلك يحصل له انفعال وينشأ عنه انضغاط الأعصاب في الصدر والقلب من تأثير الإدراك الخاص على جمع الأعصاب الكائن بالدماغ الذي هو المُدرك فيحس بشبه امتلاء في الصدر . وقد تقدم عند قوله تعالى : { يجعلُ صدرَه ضيّقاً حرجاً } [ الأنعام : 125 ] وقوله : { وضائق به صدرُك } في سورة هود ( 12 ) . والمعنى : أنه يأسف ويكمد لتكذيبهم إياه ويجيش في نفسه روم إقناعهم بصدقه ، وتلك الخواطر إذا خطرت في العقل نشأ منها إعداد البراهين ، وفي ذلك الإعداد تكلّف وتعب للفكر فإذا أبانها أحس بارتياح وبشبه السعة في الصدر فسمى ذلك شرحاً للصدر ، ولذلك سأله موسى في الآية الأخرى قال : { ربّ اشرح لي صدري } [ طه : 25 ] .
والانطلاق حقيقته مطاوع أطلقه إذا أرسله ولم يحبسه فهو حقيقة في الذهاب . واستعير هنا لفصاحة اللسان وبيانه في الكلام ، أي ينحبس لساني فلا يبين عند إرادة المحاجة والاستدلالِ وعطفه على { يضيق صدري } ينبىء بأنه أراد بضيق الصدر تكاثر خواطر الاستدلال ، في نفسه على الذين كذبوه ليقنعهم بصدقه حتى يحسّ كأن صدره قد امتلأ ، والشأن أن ذلك ينقُص شيئاً بعد شيء بمقدار ما يفصح عنه صاحبه من إبلاغه إلى السامعين ، فإذا كانت في لسانه حبسة وعِيٌّ بقيت الخواطر متلجلجة في صدره . والمعنى : ويضيق صدري حين يكذبونني ولا ينطلق لساني .
وقرأ الجمهور : { يضيقُ . . . ولا ينطلقُ } مرفوعين عطفاً على { أخاف } ولذلك حقّقه بحرف التأكيد لأنه أيقن بحصول ذلك لأنه جبلي عند تلقي التكذيب ، ولأن أمانة الرسالة والحرص على تنفيذ مراد الله يحدث ذلك في نفسه لا محالة ، وإذ قد كان انحباس لسانه يقيناً عنده لأنه كان كذلك من أجل ذلك التيقن كان فعلا { يضيق . . . ولا ينطلق } معطوفين على ما هو محقق عنده وهو حصول الخوف من التكذيب ، ولم يكونا معطوفين على { يكذبون } المخوف منه المتوقع على أن كونه محقق الحصول يجعله أحرى من المتوقع .
وقرأ يعقوب { ويضيقَ . . . ولا ينطلقَ } بنصب الفعلين عطفاً على { يكذبون } ، أي يتوقع أن يضيقَ صدره ولا ينطلقَ لسانُه . قيل كانت بموسى حُبسة في لسانه إذا تكلم . وقد تقدم في سورة طَه وسيجيء في سورة الزخرف .
وليس القصد من هذا الكلام التنصل من الاضطلاع بهذا التكليف العظيم ولكن القصد تمهيد ما فرعه عليه من طلب تشريك أخيه هارون معه لأنه أقدر منه على الاستدلال والخطابة كما قال في الآية الأخرى { وأخي هارون هو أفصح مني لساناً فأرسله معي } [ القصص : 34 ] . فقوله هنا { فأرسل إلى هارون } مُجمل يبيّنه ما في الآية الأخرى فيعلم أن في الكلام هنا إيجازاً . وأنه ليس المراد : فأرسل إلى هارون عِوَضاً عني .
وإنما سأل الله الإرسالَ إلى هارون ولم يسأله أن يكلّم هارون كما كلّمه هو لأن هارون كان بعيداً عن مكان المناجاة . والمعنى : فأرسل مَلَكاً بالوحي إلى هارون أن يكون معي .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{و} أخاف أن {ويضيق صدري} يعني: يضيق قلبي، {ولا ينطلق لساني} بالبلاغ {فأرسل إلى هارون}، يقول: فأرسل معي هارون...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"وَيَضِيقُ صَدْرِي" من تكذيبهم إياي إن كّذبوني...
وقوله: "وَلا يَنْطَلقُ لسانِي" يقول: ولا ينطلق بالعبارة عما ترسلني به إليهم... وقوله: "وَلا يَنْطَلق لِسانِي" كلام معطوف به على يضيق. وقوله: "فأَرْسِلْ إلى هارُونَ" يعني هارون أخاه، ولم يقل: فأرسل إليّ هارون ليؤازرني وليعينني...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{ويضيق صدري ولا ينطلق لساني} لأن عليه أن يغضب لله إذا كذبوه، فإذا اشتد بالمرء الغضب ضاق صدره، وكلَّ لسانُه، وهو دعا ربه، وسأله حين {قال رب اشرح لي صدري} {ويسر لي أمري} {واحلل عقدة من لساني} [طه: 25 26و27] وهو ما ذكرنا إذا اشتد بالمرء الغضب يضيق صدره حتى يمنعه عن الفهم، ويكل لسانه حتى يمنعه عن العبارة والبيان. وجائز أن يكون ذلك لآفة، كانت بلسانه. ثم ضيق الصدر يكون لوجهين:
أحدهما: لعظم أمر الله وجلال قدره إذا كذبوه، وردوا رسالته وأمره، ضاق لذلك صدره.
والثاني: لما ينزل من عذاب الله ونقمته بالتكذيب إشفاقا عليهم منه، والله أعلم.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
قال: إني {يضيق صدري} عند تكذيبهم، أو خوفي من تكذيبهم لي انفعالاً كما هو شأن أهل المروءات، وأرباب علو الهمم، لما غرز فيهم من الحدة والشدة في العزيمة إذا لم يجدوا مساغاً، {ولا ينطلق}... {لساني} أي في التعبير عما ترسلني إليهم به... فإذا وقع التكذيب أو خوفه وضاق القلب، انقبض الروح إلى باطنه فازدادت الحبسة، فمست الحاجة إلى معين يقوي القلب فيعين على إطلاق اللسان عند الحبسة لئلا تختل الدعوة {فأرسل} أي فتسبب عن ذلك الذي اعتذرت به عن المبادرة إلى الذهاب عند الأمر أني أسألك في الإرسال {إلى هارون} أخي، ليكون رسولاً من عندك فيكون لي عضداً على ما أمضى له من الرسالة، فيعين على ما يحصل من ذلك، وليس اعتذاره بتعلل في الامتثال، وكفى بطلب العون دليلاً على التقبل، لا على التعلل.
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلاَ يَنطَلِقُ لِسَانِي} معطوفانِ على أخافُ {فَأَرْسِلْ} أي جبريلَ عليه السَّلامُ {إِلَي هارون} ليكونَ معي وأتعاضدُ به في تبليغِ الرِّسالة رتَّب عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ استدعاءَه ذلك على الأمورِ الثَّلاثةِ: خوفُ التَّكذيبِ وضيقُ الصَّدرِ وازديادُ ما كان فيه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ من حَبسةِ اللِّسان بانقباضِ الرُّوحِ إلى باطنِ القلبِ عند ضيقِه بحيث لا ينطقُ، لأنَّها إذا اجتمعتْ تمسُّ الحاجةُ إلى معينٍ يُقوِّي قلبه وينوبُ منابَه إذا اعتراهُ حبسةٌ حتَّى لا تختلَّ دعوتُه ولا تنقطعَ حجَّتُه، وليس هذا من التَّعلل والتَّوقف في تلقِّي الأمرِ في شيءٍ وإنَّما هو استدعاءٌ لما يُعينه على الامتثالِ به وتمهيدُ عذرٍ فيه.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 12]
ولم يكن أمر فرعون وملئه جديدا على موسى -عليه السلام- فهو يعرفه، ويعرف ظلم فرعون وعتوه وجبروته، ويدرك أنها مهمة ضخمة وتكليف عظيم. ومن ثم يشكو إلى ربه ما به من ضعف وقصور لا ليتنصل أو يعتذر عن التكليف، ولكن ليطلب العون والمساعدة في هذا التكليف العسير. (قال: رب إني أخاف أن يكذبون. ويضيق صدري ولا ينطلق لساني فأرسل إلى هارون. ولهم علي ذنب فأخاف أن يقتلون). والظاهر من حكاية قوله -عليه السلام- أن خوفه ليس من مجرد التكذيب، ولكن من حصوله في وقت يضيق فيه صدره ولا ينطلق لسانه فلا يملك أن يبين، وأن يناقش هذا التكذيب ويفنده. إذ كانت بلسانه حبسة هي التي قال عنها في سورة طه: (واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي) ومن شأن هذه الحبسة أن تنشى ء حالة من ضيق الصدر، تنشأ من عدم القدرة على تصريف الانفعال بالكلام. وتزداد كلما زاد الانفعال، فيزداد الصدر ضيقا.. وهكذا... وهي حالة معروفة. فمن هنا خشي موسى أن تقع له هذه الحالة وهو في موقف المواجهة بالرسالة لظالم جبار كفرعون. فشكا إلى ربه ضعفه وما يخشاه على تبليغ رسالته، وطلب إليه أن يوحي إلى هارون أخيه، ويشركه معه في الرسالة اتقاء للتقصير في أداء التكليف، لا نكوصا ولا اعتذارا عن التكليف. فهارون أفصح لسانا ومن ثم هو أهدأ انفعالا؛ فإذا أدركت موسى حبسة أو ضيق نهض هارون بالجدل والمحاجة والبيان. ولقد دعا موسى ربه -كما ورد في سورة طه- ليحل هذه العقدة من لسانه، ولكنه زيادة في الاحتياط للنهوض بالتكليف طلب معه أخاه هارون وزيرا ومعينا.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{يضيق صدري}... أي والحال، يضيق ساعتئذ صدري من عدم اهتدائهم. والضَيق: ضد السعة، وهو هنا مستعار للغضب والكمد لأن من يعتريه ذلك يحصل له انفعال وينشأ عنه انضغاط الأعصاب في الصدر والقلب من تأثير الإدراك الخاص على جمع الأعصاب الكائن بالدماغ الذي هو المُدرك فيحس بشبه امتلاء في الصدر. وقد تقدم عند قوله تعالى: {يجعلُ صدرَه ضيّقاً حرجاً} [الأنعام: 125] وقوله: {وضائق به صدرُك} في سورة هود (12). والمعنى: أنه يأسف ويكمد لتكذيبهم إياه ويجيش في نفسه روم إقناعهم بصدقه، وتلك الخواطر إذا خطرت في العقل نشأ منها إعداد البراهين، وفي ذلك الإعداد تكلّف وتعب للفكر فإذا أبانها أحس بارتياح وبشبه السعة في الصدر فسمى ذلك شرحاً للصدر، ولذلك سأله موسى في الآية الأخرى قال: {ربّ اشرح لي صدري} [طه: 25]. والانطلاق حقيقته مطاوع أطلقه إذا أرسله ولم يحبسه فهو حقيقة في الذهاب. واستعير هنا لفصاحة اللسان وبيانه في الكلام، أي ينحبس لساني فلا يبين عند إرادة المحاجة والاستدلالِ وعطفه على {يضيق صدري} ينبئ بأنه أراد بضيق الصدر تكاثر خواطر الاستدلال، في نفسه على الذين كذبوه ليقنعهم بصدقه حتى يحسّ كأن صدره قد امتلأ، والشأن أن ذلك ينقُص شيئاً بعد شيء بمقدار ما يفصح عنه صاحبه من إبلاغه إلى السامعين، فإذا كانت في لسانه حبسة وعِيٌّ بقيت الخواطر متلجلجة في صدره.
والمعنى: ويضيق صدري حين يكذبونني ولا ينطلق لساني. وقرأ الجمهور: {يضيقُ... ولا ينطلقُ} مرفوعين عطفاً على {أخاف} ولذلك حقّقه بحرف التأكيد لأنه أيقن بحصول ذلك لأنه جبلي عند تلقي التكذيب، ولأن أمانة الرسالة والحرص على تنفيذ مراد الله يحدث ذلك في نفسه لا محالة، وإذ قد كان انحباس لسانه يقيناً عنده لأنه كان كذلك من أجل ذلك التيقن كان فعلا {يضيق... ولا ينطلق} معطوفين على ما هو محقق عنده وهو حصول الخوف من التكذيب، ولم يكونا معطوفين على {يكذبون} المخوف منه المتوقع على أن كونه محقق الحصول يجعله أحرى من المتوقع. وقرأ يعقوب {ويضيقَ... ولا ينطلقَ} بنصب الفعلين عطفاً على {يكذبون}، أي يتوقع أن يضيقَ صدره ولا ينطلقَ لسانُه... وليس القصد من هذا الكلام التنصل من الاضطلاع بهذا التكليف العظيم ولكن القصد تمهيد ما فرعه عليه من طلب تشريك أخيه هارون معه لأنه أقدر منه على الاستدلال والخطابة كما قال في الآية الأخرى {وأخي هارون هو أفصح مني لساناً فأرسله معي} [القصص: 34]. فقوله هنا {فأرسل إلى هارون} مُجمل يبيّنه ما في الآية الأخرى فيعلم أن في الكلام هنا إيجازاً. وأنه ليس المراد: فأرسل إلى هارون عِوَضاً عني. وإنما سأل الله الإرسالَ إلى هارون ولم يسأله أن يكلّم هارون كما كلّمه هو لأن هارون كان بعيداً عن مكان المناجاة. والمعنى: فأرسل مَلَكاً بالوحي إلى هارون أن يكون معي.