وقوله - تعالى - : { فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً . إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً . وَنَرَاهُ قَرِيباً . . . } متفرع على قوله - سبحانه - { سَأَلَ سَآئِلٌ } لأن السؤال كان سؤال استهزاء ، يضيق به الصدر ، وتغتم له النفس .
والصبر الجميل : هو الصبر الذى لا شكوى معه لغير الله - عز وجل - ولا يخالطه شىء من الجزع ، أو التبرم بقضاء الله وقدره .
أى : لقد سألوك - أيها الرسول الكريم - عن يوم القيامة ، وعن العذاب الذى تهددهم به . . . سؤال تهكم واستعجال . . . فاصبر صبرا جميلا على غرورهم وجحودهم وجهالاتهم .
وإذا كان يوم واحد من أيام الله يساوي خمسين ألف سنة ، فإن عذاب يوم القيامة قد يرونه هم بعيدا ، وهو عند الله قريب . ومن ثم يدعو الله نبيه [ صلى الله عليه وسلم ] إلى الصبر الجميل على استعجالهم وتكذيبهم بذلك العذاب القريب .
( فاصبر صبرا جميلا . إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا ) . .
والدعوة إلى الصبر والتوجيه إليه صاحبت كل دعوة ، وتكررت لكل رسول ، ولكل مؤمن يتبع الرسول . وهي ضرورية لثقل العبء ومشقة الطريق ، ولحفظ هذه النفوس متماسكة راضية ، موصولة بالهدف البعيد ، متطلعة كذلك إلى الأفق البعيد . .
والصبر الجميل هو الصبر المطمئن ، الذي لا يصاحبه السخط ولا القلق ولا الشك في صدق الوعد . صبر الواثق من العاقبة ، الراضي بقدر الله ، الشاعر بحكمته من وراء الابتلاء ، الموصول بالله المحتسب كل شيء عنده مما يقع به .
وهذا اللون من الصبر هو الجدير بصاحب الدعوة . فهي دعوة الله ، وهي دعوة إلى الله . ليس له هو منها شيء . وليس له وراءها من غاية . فكل ما يلقاه فيها فهو في سبيل الله ، وكل ما يقع في شأنها هو من أمر الله . فالصبر الجميل إذن ينبعث متناسقا مع هذه الحقيقة ، ومع الشعور بها في أعماق الضمير .
والله صاحب الدعوة التي يقف لها المكذبون ، وصاحب الوعد الذي يستعجلون به ويكذبون ، يقدر الأحداث ويقدر مواقيتها كما يشاء وفق حكمته وتدبيره للكون كله . ولكن البشر لا يعرفون هذا التدبير وذلك التقدير ؛ فيستعجلون . وإذا طال عليهم الأمد يستريبون . وقد يساور القلق أصحاب الدعوة أنفسهم ، وتجول في خاطرهم أمنية ورغبة في استعجال الوعد ووقوع الموعود . . عندئذ يجيء مثل هذا التثبيت وهذا التوجيه من الله الخبير :
والخطاب هنا للرسول [ صلى الله عليه وسلم ] تثبيتا لقلبه على ما يلقى من عنت المناوأة والتكذيب . وتقريرا للحقيقة الأخرى : وهي أن تقدير الله للأمور غير تقدير البشر ؛ ومقاييسه المطلقة غير مقاييسهم الصغيرة :
وقوله فاصْبِرْ صَبْرا جمِيلاً يقول تعالى ذكره : فاصبر صبرا جميلاً ، يعني : صبرا لا جزع فيه . يقول له : اصبر على أذى هؤلاء المشركين لك ، ولا يثنيك ما تلقى منهم من المكروه عن تبليغ ما أمرك ربك أن تبلغهم من الرسالة . وكان ابن زيد يقول في ذلك ما :
حدثني به يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : فاصْبِرْ صَبْرا جَمِيلاً قال : هذا حين كان يأمره بالعفو عنهم لا يكافئهم ، فلما أمر بالجهاد والغلظة عليهم أمر بالشدّة والقتل حتى يتركوا ، ونسخ هذا .
وهذا الذي قاله ابن زيد أنه كان أمر بالعفو بهذه الاَية ، ثم نسخ ذلك قول لا وجه له ، لأنه لا دلالة على صحة ما قال من بعض الأوجه التي تصحّ منها الدعاوي ، وليس في أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم في الصبر الجميل على أذى المشركين ما يوجب أن يكون ذلك أمرا منه له به في بعض الأحوال ، بل كان ذلك أمرا من الله له به في كلّ الأحوال ، لأنه لم يزل صلى الله عليه وسلم من لدن بعثه الله إلى أن اخترمه في أذى منهم ، وهو في كلّ ذلك صابر على ما يلقى منهم من أذًى قبل أن يأذن الله له بحربهم ، وبعد إذنه له بذلك .
اعتراض مفرع : إِما على ما يومىء إليه { سأَل سائل } [ المعارج : 1 ] من أنه سؤال استهزاء ، فهذا تثبيت للنبيء صلى الله عليه وسلم وإما على { سأل سائل } بمعنى : دعا داع .
فالفاء لتفريع الأمر بالصبر على جملة { سال سائل إذا كان ذلك السؤال بمعنييه استهزاء وتعريضاً بالتكذيب فشأنه أن لا تصبر عليه النفوس في العرف .
والصبر الجميل : الصبر الحسن في نوعه وهو الذي لا يخالطه شيء مما ينافي حقيقة الصبر ، أي اصبر صبراً محضاً ، فإن جمال الحقائق الكاملة بخلوصها عما يعَكر معناها من بقايا أضدادها ، وقد مضى قوله تعالى عن يعقوب فصبْرٌ جميل في سورة يوسف ( 18 ) وسيجيء قوله تعالى : { واهجرهم هجراً جميلاً } في المزمل ( 10 ) .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{فاصبر} يا محمد {صبرا جميلا} يعزى نبيه صلى الله عليه وسلم، صبرا لا جزع فيه تكذيبهم إياك بأن العذاب غير كائن.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"فاصبر صبرا جميلاً"، يعني: صبرا لا جزع فيه. يقول له: اصبر على أذى هؤلاء المشركين لك، ولا يثنيك ما تلقى منهم من المكروه عن تبليغ ما أمرك ربك أن تبلغهم من الرسالة. وكان ابن زيد يقول، في قوله: فاصْبِرْ صَبْرا جَمِيلاً قال: هذا حين كان يأمره بالعفو عنهم لا يكافئهم، فلما أمر بالجهاد والغلظة عليهم أمر بالشدّة والقتل حتى يتركوا، ونسخ هذا. وهذا الذي قاله ابن زيد أنه كان أمر بالعفو بهذه الآية، ثم نسخ ذلك قول لا وجه له، لأنه لا دلالة على صحة ما قال من بعض الأوجه التي تصحّ منها الدعاوي، وليس في أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم في الصبر الجميل على أذى المشركين ما يوجب أن يكون ذلك أمرا منه له به في بعض الأحوال، بل كان ذلك أمرا من الله له به في كلّ الأحوال، لأنه لم يزل صلى الله عليه وسلم من لدن بعثه الله إلى أن اخترمه في أذى منهم، وهو في كلّ ذلك صابر على ما يلقى منهم من أذًى قبل أن يأذن الله له بحربهم، وبعد إذنه له بذلك.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قيل: الصبر الجميل هو صبر لا جزع فيه، والصبر الذي لا جزع فيه هو أن يصبر المرء صبرا لا ترى عليه أثر الصبر، بألا يظهر في وجهه كراهته وعبوسه، وهو أن ينظر إلى من رآه بعين الرضا والشفقة، ليس السخط والكراهة، والصبر الجميل ألا يكافئهم، ولا يدع شفقته ورحمته عليهم بما يؤذونه. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك مشفقا عليهم رحيما بهم حتى بلغت شفقته ورحمته وحزنه على كفار قومه مبلغا كادت نفسه تهلك فيها كما قال الله تعالى: {فلا تذهب نفسك عليهم حسرات} [فاطر: 8] وقال: {فلعلك باخع نفسك على آثارهم} [الكهف: 6]. فالرسل عليهم السلام كانوا إذا أوذوا لم يكونوا يتحزّنون لمكان أنفسهم بما أوذوا، بل كانوا يحزنون بما كان من ذنوبهم خوفا من أن يحل بهم الهلاك والبوار بإيذائهم وهم رسل الله تعالى، وإشفاقهم على قومهم، هو الذي كان يحزنهم ليس سوء صنيعهم ومعاملتهم معهم.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{فاصْبِرْ صَبْراً جَميلاً} فيه أربعة تأويلات:
الثاني: أنه الصبر الذي لا بث فيه ولا شكوى.
الثالث: أنه الانتظار من غير استعجال، قاله ابن بحر.
الرابع: أنه المجاملة في الظاهر، قاله الحسن.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت: بم يتعلق قوله {فاصبر}؟ قلت: بسأل سائل؛ لأنّ استعجال النصر بالعذاب إنما كان على وجه الاستهزاء برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم والتكذيب بالوحي، وكان ذلك مما يضجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر بالصبر عليه، وكذلك من سأل عن العذاب لمن هو؟ فإنما سأل على طريق التعنت، وكان من كفار مكة. ومن قرأ: «سال سائل» أو سيل، فمعناه: جاء العذاب لقرب وقوعه، فاصبر فقد شارفت الانتقام.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
والصبر: حبس النفس على المكروه من الإقدام أو الإحجام، وجماله بسكون الظاهر بالتثبت، والباطن بالعرفان.
{صبراً جميلاً} أي لا يشوبه شيء من اضطراب ولا استثقال، ولا شكوى ولا استعجال، فإن عذابهم ونصرك عليهم لعظمة من أرسلك، فلا بد من وقوعه لأن القدح فيه والتكذيب به قدح فيها.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وإذا كان يوم واحد من أيام الله يساوي خمسين ألف سنة، فإن عذاب يوم القيامة قد يرونه هم بعيدا، وهو عند الله قريب. ومن ثم يدعو الله نبيه [صلى الله عليه وسلم] إلى الصبر الجميل على استعجالهم وتكذيبهم بذلك العذاب القريب. (فاصبر صبرا جميلا. إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا).. والدعوة إلى الصبر والتوجيه إليه صاحبت كل دعوة، وتكررت لكل رسول، ولكل مؤمن يتبع الرسول. وهي ضرورية لثقل العبء ومشقة الطريق، ولحفظ هذه النفوس متماسكة راضية، موصولة بالهدف البعيد، متطلعة كذلك إلى الأفق البعيد.. والصبر الجميل هو الصبر المطمئن، الذي لا يصاحبه السخط ولا القلق ولا الشك في صدق الوعد. صبر الواثق من العاقبة، الراضي بقدر الله، الشاعر بحكمته من وراء الابتلاء، الموصول بالله المحتسب كل شيء عنده مما يقع به. وهذا اللون من الصبر هو الجدير بصاحب الدعوة. فهي دعوة الله، وهي دعوة إلى الله. ليس له هو منها شيء. وليس له وراءها من غاية. فكل ما يلقاه فيها فهو في سبيل الله، وكل ما يقع في شأنها هو من أمر الله. فالصبر الجميل إذن ينبعث متناسقا مع هذه الحقيقة، ومع الشعور بها في أعماق الضمير. والله صاحب الدعوة التي يقف لها المكذبون، وصاحب الوعد الذي يستعجلون به ويكذبون، يقدر الأحداث ويقدر مواقيتها كما يشاء وفق حكمته وتدبيره للكون كله. ولكن البشر لا يعرفون هذا التدبير وذلك التقدير؛ فيستعجلون. وإذا طال عليهم الأمد يستريبون. وقد يساور القلق أصحاب الدعوة أنفسهم، وتجول في خاطرهم أمنية ورغبة في استعجال الوعد ووقوع الموعود.. عندئذ يجيء مثل هذا التثبيت وهذا التوجيه من الله الخبير: (فاصبر صبرا جميلا).. والخطاب هنا للرسول [صلى الله عليه وسلم] تثبيتا لقلبه على ما يلقى من عنت المناوأة والتكذيب. وتقريرا للحقيقة الأخرى: وهي أن تقدير الله للأمور غير تقدير البشر؛ ومقاييسه المطلقة غير مقاييسهم الصغيرة: