سورة الجاثية مكية ، نزلت في الفترة الأخيرة من حياة المسلمين بمكة ، بعد الإسراء وقبيل الهجرة ، وآياتها 37 آية ، نزلت بعد سورة الدخان ، والسورة لها اسمان : سورة الجاثية ، لقوله تعالى : { وترى كل أمة جاثية . . . } ( الجاثية : 28 ) .
وسورة الشريعة لقوله تعالى : { ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون } . ( الجاثية : 18 ) .
تحمل سورة الجاثية الدعوة إلى الإيمان بالله تعالى ، والرد على الدهرية الذين لا يؤمنون به ، وينكرون البعث بعد الموت ، وقد دعت السورة إلى هذا تارة بالدليل ، وتارة بالترهيب والترغيب ، شأنها في ذلك شأن السورة السابقة ، وشأن السورة التي ذكرت قبلها ووافقتها في هذا الغرض ، كما وافقتها في الحروف التي ابتدأت بها ، ولهذا ذكرت هذه السورة معها ، وسميت مجموعة هذه السور بالحواميم ، نسبة إلى بدايتها بقوله تعالى : { حم } .
معظم مقصود سورة الجاثية هو : بيان حجة التوحيد ، والشكاية من الكفار والمنكرين ، وبيان النفع والضر والإساءة والإحسان1 ، وبيان شريعة الإسلام والإيمان ، وتهديد العصاة والخائنين من أهل الإيمان ، وذم متابعي الهوى ، وذل الناس في المحشر ، ونسخ كتب الأعمال من اللوح المحفوظ ، وتأبيد الكفار في النار ، وتحميد الرب المتعال بأوجز لفظ وأفصح مقال2 في قوله : { فلله الحمد رب السماوات ورب الأرض رب العالمين } . ( الجاثية : 36 ) .
لاحظنا أن سورة الجاثية تتميز بقصر الآيات ، وعنف الإيقاع كأنه مطارق تقرع القلوب ، وسورة الجاثية بجوارها تسير في يسر وهوادة ، وإيضاح هادئ ، وبيان دقيق عميق .
والله سبحانه خالق القلوب ، ومنزل هذا القرآن ، يأخذ القلوب تارة بالقرع والطرق ، وتارة باللمس الناعم الرفيق ، وتارة بالبيان الهادئ الرقيق ، حسب تنوعها هي واختلافها .
فمن الناس من ينفع معه الزجر والوعيد ، ومنهم من يأسره التوجيه الهادئ الرشيد ، والقلب الواحد يتقلب على حالات متعددة ، والله يختار له ما يناسبه ، وهو سبحانه اللطيف الخبير ، السميع البصير ، وقد كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم : ( اللهم يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلبي على دينك ) ، فقالت عائشة : يا رسول الله ، أراك تكثر من هذا الدعاء ، فقال النبي : ( يا عائشة ، إن قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمان يقلبها كيف يشاء )3 .
سورة الجاثية تصور جانبا من استقبال المشركين للدعوة الإسلامية ، وطريقتهم في مواجهة حججها وآياتها ، وتعنتهم في مواجهة حقائقها وقضاياها ، وإتباعهم للهوى إتباعا كاملا في غير ما تحرج من حق واضح أو برهان ظاهر ، كذلك تصور كيف كان القرآن يعالج قلوبهم الجامحة الشاردة مع الهوى ، المغلقة دون الهدى ، وهو يواجهها بآيات الله القاطعة ، والعميقة التأثير والدلالة ، ويذكرهم بعذابه ، ويصور لهم ثوابه ، ويقرر لهم سننه ، ويعرفهم بنواميسه الماضية في هذا الوجود .
سورة الجاثية وحدة في علاج موضوعها ، وهذه الوحدة تشتمل على درسين :
الدرس الأول : يتناول أدلة الشرك بالتنفيذ ، وأدلة الإيمان بالتوضيح والتأييد .
والدرس الثاني : يعرض عناد الكافرين في الدنيا ، ثم يذكر أحوالهم في مشاهد القيامة .
1- شبهات الكفر ، وأدلة الإيمان
تبدأ سورة الجاثية بهذين الحرفين : حم ، والملاحظ أن هذه الأحرف يتبعها عادة الحديث عن القرآن ، مما يشير إلى أنها نزلت لتنوه بهذا القرآن ، وتستلفت الأنظار إلى خصائصه المتميزة ، وتبرهن بذلك على أنه ليس من صنع بشر ، وإنما هو من عند الله : { تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم } . ( الجاثية : 2 ) .
وتعرض أدلة الإيمان والتوحيد ، وتستلفت الأنظار إلى جلال الله ، ودلائل قدرته في السماء والأرض ، والخلق والدواب ، والليل والنهار ، والمطر والزرع والرياح ، حتى تأخذ على النفس أقطارها ، وتواجهها بالحجج والبراهين ساطعة واضحة ، فتقول : { إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ ( 3 ) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آَيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ( 4 ) وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آَيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ( 5 ) تِلْكَ آَيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآَيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ ( 6 ) } . ( الجاثية : 3-6 ) .
ومن خلال الآيات التالية نرى فريقا من الناس مصرا على الضلالة ، مكابرا في الحق ، شديد العناد ، سيء الأدب في حق الله وحق كلامه : { ويل لكل أفاك أثيم * يسمع آيات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبرا كأن لم يسمعها فبشره بعذاب أليم } . ( الجاثية : 7 ، 8 ) .
ونرى جماعة من الناس ، ربما كانوا من أهل الكتاب ، سيئ التصوير والتقدير ، لا يقيمون وزنا لحقيقة الإيمان الخالصة ، ولا يحسون بالفارق الأصيل بينهم وهم يعلمون السيئات ، وبين المؤمنين الذي يعملون الصالحات ، والقرآن يشعرهم بأن هناك فارقا أصيلا في ميزان الله بين الفريقين : { أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون } . ( الجاثية : 21 ) .
ونرى فريقا من الناس لا يعرف حكما يرجع إليه هواه ، فهو إلهه الذي يعبده ، ويطيع كل ما يراه ، نرى هذا الفريق مصورا تصويرا فذًّا في هذه الآية التي تعجب من أمره ، وتشهر بغفلته وعماه : { أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون } . ( الجاثية : 22 ) .
أرأيت كيف تناولت هذه السورة الهادئة أصناف المشركين و فرقهم المناوئة للدعوة ، ويجوز أن يكون هؤلاء جميعا فريقا واحدا من الناس يصدر منه هذا وذاك ، ويصفه القرآن في السورة هنا وهناك ، كما يجوز أن يكونوا فرقا متعددة .
وعلى أية حال فقد واجه القرآن هؤلاء الناس بصفاتهم تلك وتصرفاتهم ، وتحدث عنهم في هذه السورة ذلك الحديث ، كذلك واجههم الله بآياته في الآفاق وفي أنفسهم ، وفي البر والبحر ، حيث يقول سبحانه : { الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون * وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون } . ( الجاثية : 12 ، 13 ) .
ويستغرق الدرس الأول من السورة الآيات من ( 1-23 ) .
2- عناد الكافرين وعقابهم يوم الدين
يشمل الدرس الثاني من السورة الآيات من ( 24-37 ) ، ويبدأ بعرض أقوال المشركين عن الآخرة وعن البعث والحساب ، ودعواهم بأن الأيام تمضي ، والدهر ينطوي ، فإذا هم أموات ، والدهر في ظنهم هو الذي ينهي آجالهم ، ويلحق بأجسامهم الموت فيموتون ، وقد فقد القرآن هذه الدعوى ، وبين أنها لا تستند إلى حقيقة أو يقين ، وإذا قرعتهم الآيات الدالة على ثبوت البعث لم يجدوا لهم حجة إلا أن يقولوا : { ائتوا بآبائنا إن كنتم صادقين } . ( الجاثية : 25 ) .
والله سبحانه له حكمة في خلق الناس ، فقد خلقهم للاختبار والابتلاء في الدنيا ، ثم يجازيهم في الآخرة ، ولا يرجعهم إلى الدنيا قبل الموعد الذي قدره وفق حكمته العليا .
والله هو الذي يحيي وهو الذي يميت ، فلا عجب إذن من أن يحيي الناس ويجمعهم إلى يوم القيامة ، وهو سبحانه مالك السماوات والأرض ، وهو القادر على الإنشاء والإعادة .
تعرض الآيات الأخيرة من سورة الجاثية مشاهد الآخرة ، ظاهرة ملموسة للعين ، ومن خلال الآيات نرى المشركين وقد جثوا على الركب ، متميزين أمة أمة في ارتقاب الحساب المرهوب .
ثم يأخذون كتابهم وقد سجل كل شيء فيه ، ونسخت فيه كل أعمالهم : { وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها اليوم تجزون ما كنتم تعملون * هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون } . ( الجاثية : 28 ، 29 ) .
ثم تنقسم الحشود الحاشدة والأمم المختلفة على مدى الأجيال إلى فريقين اثنين : الذين آمنوا ، وهؤلاء يدخلهم ربهم في رحمته . والذين كفروا ، وهؤلاء يلقون التشهير والتوبيخ جزاء عنادهم ، وعندئذ تظهر أمامهم سيئات ما عملوا ، ويحيق بهم المهانة والعذاب ، ويسدل الستار عليهم ، وقد أوصدت عليهم أبواب النار : { ذلكم بأنكم اتخذتم آيات الله هزوا وغرتكم الحياة الدنيا فاليوم لا يخرجون منها ولا هم يستعتبون } . ( الجاثية : 35 ) .
وهنا ينطلق صوت التحميد يعلن وحدة الربوبية في هذا الكون : سمائه وأرضه ، إنسه وجنه ، طيره ووحشه ، وسائر ما فيه ومن فيه ، فكلهم في رعاية رب واحد ، له الكبرياء المطلق في هذا الوجود ، وله العزة القادرة والحكمة المدبرة : { فلله الحمد رب السماوات ورب الأرض رب العالمين * وله الكبرياء في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم } . ( الجاثية : 36 ، 37 ) .
{ حم ( 1 ) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ( 2 ) إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ ( 3 ) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آَيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ( 4 ) وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آَيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ( 5 ) }
حم : حرفان من حروف المعجم ، أو أداة للتنبيه ، أو للتحدي والإعجاز .
حرفان من حروف المعجم التي افتتح الله تعالى بها بعض السور للتنبيه ، فهي بمثابة الجرس الذي يقرع فيتنبه التلاميذ لدخول المدرسة ، أو للتحدي والإعجاز ، أو للإشارة إلى أسماء الله تعالى أو صفاته ، أو هي لجميع هذه المعاني ، وغيرها مما سبق ذكره في أول سورة البقرة .
{ حم } : هذا أحد الحروف الهجائية يكتب هكذا : حم ويقرأ هكذا : حَامِيمْ .
قوله تعالى : { حم } : الله أعلم بمراده به إذ هو من المتشابه الذي أُمرنا أن نؤمن به ونفوض أمر معناه إلى من أنزله سبحانه وتعالى . وقد ذكرنا مرات فائدتين لهذه الحروف المقطعة فلتراجع في أكثر السورة المفتتحة بالحرف والمقطعة كحم الدخان السورة التي قبل هذه السورة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي 597 هـ :
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
الدلالة على أن منزل هذا الكتاب -كما دل عليه في الدخان- ذو العزة لأنه لا يغلبه شيء، وهو يغلب كل شيء، والحكمة؛ لأنه لم يضع شيئا إلا في أحكم مواضعه، فعلم أنه المختص بالكبرياء فوضع شرعا [هو-] في غاية الاستقامة لا تستقل العقول بإدراكه ولا يخرج شيء منه عنه، أمر فيه ونهي، ورغب ورهب ثم بطن حتى أنه لا يعرف، ثم ظهر حتى أنه لا يجهل، فمن المكلفين من حكم عقله وجانب هواه فشهد جلاله فسمع وأطاع، ومنهم من تبع هواه فضل عن نور العقل فزاغ وأضاع فاقتضت الحكمة ولا بد؛ أن يجمع سبحانه الخلق ليوم الفصل، فيظهر كل الظهور ويدين عباده ليشهد رحمته المطيع وكبرياءه العاصي، وينشر العدل ويظهر الفضل، ويتجلى في جميع صفاته لجميع خلقه، وعلى ذلك دل اسمها الشريعة.
واسمها الجاثية واضح الدلالة فيه إذا تؤمل كل من آيتيهما-والله سبحانه وتعالى الهادي.
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
سميت بها لتضمن آيتها بيان سبب تأخير البعث إلى يوم القيامة؛ لأجل اجتماع الأمم محاكمة إلى الله تعالى، وفصله بينهم يوم القيامة؛ وهي من المطالب الشريفة في القرآن.
وتسمى (سورة الشريعة) لتضمن آيتها وجه نسخ هذه الشريعة، سائر الشرائع، وفضلها عليها، وهو أيضا من المطالب العزيزة فيه. قاله المهايميّ...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
هذه السورة المكية تصور جانباً من استقبال المشركين للدعوة الإسلامية، وطريقتهم في مواجهة حججها وآياتها، وتعنتهم في مواجهة حقائقها وقضاياها، واتباعهم للهوى اتباعاً كاملاً في غير ما تحرج من حق واضح أو برهان ذي سلطان. كذلك تصور كيف كان القرآن يعالج قلوبهم الجامحة الشاردة مع الهوى، المغلقة دون الهدى؛ وهو يواجهها بآيات الله القاطعة العميقة التأثير والدلالة، ويذكرهم عذابه، ويصور لهم ثوابه، ويقرر لهم سننه، ويعرفهم بنواميسه الماضية في هذا الوجود.
ومن خلال آيات السورة وتصويرها للقوم الذين واجهوا الدعوة في مكة، نرى فريقاً من الناس مصرا على الضلالة، مكابراً في الحق، شديد العناد، سيئ الأدب في حق الله وحق كلامه، ترسمه هذه الآيات، وتواجهه بما يستحقه من الترذيل والتحذير والتهديد بعذاب الله المهين الأليم العظيم:
(ويل لكل أفاك أثيم. يسمع آيات الله تتلى عليه، ثم يصر مستكبراً كأن لم يسمعها، فبشره بعذاب أليم. وإذا علم من آياتنا شيئاً اتخذها هزواً، أولئك لهم عذاب مهين. من ورائهم جهنم، ولا يغني عنهم ما كسبوا شيئاً ولا ما اتخذوا من دون الله أولياء ولهم عذاب عظيم)..
ونرى جماعة من الناس، ربما كانوا من أهل الكتاب سيئي التصور والتقدير؛ لا يقيمون وزناً لحقيقة الإيمان الخالصة، ولا يحسون بالفارق الأصيل بينهم وهم يعملون السيئات وبين المؤمنين الذين يعملون الصالحات. والقرآن يشعرهم بأن هناك فارقاً أصيلاً في ميزان الله بين الفريقين، ويقرر سوء حكمهم وسوء تصورهم للأمور؛ وقيام الأمر في ميزان الله على العدل الأصيل في صلب الوجود كله منذ بدء الخلق والتكوين:
(أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات، سواء محياهم ومماتهم؟ ساء ما يحكمون! وخلق الله السماوات والأرض بالحق، ولتجزى كل نفس بما كسبت، وهم لا يظلمون)..
ونرى فريقاً من الناس لا يعرف حكماً يرجع إليه إلا هواه، فهو إلهه الذي يتعبده، ويطيع كل ما يراه. نرى هذا الفريق من الناس مصوراً تصويراً فذاً في هذه الآية؛ وهو يعجب من أمره ويشهر بغفلته وعماه:
(أفرأيت من اتخذ إلهه هواه، وأضله الله على علم، وختم على سمعه وقلبه، وجعل على بصره غشاوة؟ فمن يهديه من بعد الله؟ أفلا تذكرون؟)..
ونرى هذا الفريق من الناس ينكر أمر الآخرة، ويشك كل الشك في قضية البعث والحساب، ويتعنت في الإنكار وفي طلب البرهان بما لا سبيل إليه في هذه الأرض. والقرآن يوجه هذا الفريق إلى الدلائل القائمة الحاضرة على صدق هذه القضية، وهم عنها معرضون:
(وقالوا: ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا، وما يهلكنا إلا الدهر. وما لهم بذلك من علم، إن هم إلا يظنون. وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات ما كان حجتهم إلا أن قالوا: ائتوا بآبائنا إن كنتم صادقين. قل: الله يحييكم ثم يميتكم ثم يجمعكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه. ولكن أكثر الناس لا يعلمون)..
ويجوز أن يكون هؤلاء جميعاً فريقاً واحداً من الناس يصدر منه هذا وذاك، ويصفه القرآن في السورة هنا وهناك. كما يجوز أن يكونوا فرقاً متعددة ممن واجهوا الدعوة في مكة. بما في ذلك بعض أهل الكتاب، وقليل منهم كان في مكة. ويجوز أن تكون هذه إشارة عن هذا الفريق ليعتبر بها أهل مكة دون أن يقتضي هذا وجوده في مكة بالذات في ذلك الحين.
وعلى أية حال فقد واجه القرآن هؤلاء الناس بصفاتهم تلك وتصرفاتهم، وتحدث عنهم في هذه السورة ذلك الحديث.. كذلك واجههم بآيات الله في الآفاق وفي أنفسهم، وحذرهم حساب يوم القيامة، وبصرهم بما جرى لمن قبلهم ممن انحرفوا عن دين الله القويم.
واجههم بآيات الله في هذا الأسلوب البسيط المؤثر العميق:
(إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين. وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات لقوم يوقنون. واختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها، وتصريف الرياح آيات لقوم يعقلون. تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق، فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون؟)..
وواجههم بها مرة أخرى في صورة نعم من أنعم الله عليهم يغفلون عن تذكرها وتدبرها:
(الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون. وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه. إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون)..
كذلك واجههم بحالهم يوم القيامة الذي ينكرونه أو يمارون فيه:
(ويوم تقوم الساعة يومئذ يخسر المبطلون. وترى كل أمة جاثية. كل أمة تدعى إلى كتابها. اليوم تجزون ما كنتم تعملون. هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون. فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيدخلهم ربهم في رحمته. ذلك هو الفوز المبين. وأما الذين كفروا أفلم تكن آياتي تتلى عليكم فاستكبرتم وكنتم قوماً مجرمين؟ وإذا قيل: إن وعد الله حق والساعة لا ريب فيها. قلتم: ما ندري ما الساعة، إن نظن إلا ظناً، وما نحن بمستيقنين. وبدا لهم سيئات ما عملوا، وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون. وقيل: اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا، ومأواكم النار، وما لكم من ناصرين: ذلكم بأنكم اتخذتم آيات الله هزواً وغرتكم الحياة الدنيا فاليوم لا يخرجون منها ولا هم يستعتبون..)
كذلك لم يدع أي لبس أو شك في عدالة الجزاء وفردية التبعة؛ فبين أن هذا الأصل عميق في تكوين الوجود كله، وعليه يقوم هذا الوجود. ذلك حين يقول: (من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها، ثم إلى ربكم ترجعون)..
وحين يرد على من يحسبون وهم يجترحون السيئات أنهم عند الله كالمؤمنين الذين يعملون الصالحات، فيقول:
(وخلق الله السماوات والأرض بالحق، ولتجزى كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون)..
والسورة كلها وحدة في علاج موضوعها؛ ولكننا قسمناها إلى درسين اثنين لتيسير عرضها وتفصيلها.
وهي تبدأ بالأحرف المقطعة: حا. ميم. والإشارة إلى القرآن الكريم: (تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم).. وتختم بحمد الله وربوبيته المطلقة، وتمجيده وتعظيمه، إزاء أولئك الذين يغفلون عن آياته ويستهزئون بها ويستكبرون عنها: (فلله الحمد رب السماوات ورب الأرض رب العالمين. وله الكبرياء في السماوات والأرض، وهو العزيز الحكيم)..
ويسير سياق السورة في عرض موضوعها في يسر وهوادة وإيضاح هادئ، وبيان دقيق عميق. على غير ما يسير سياق سورة الدخان قبلها في إيقاع عنيف كأنه مطارق تقرع القلوب.
والله خالق القلوب، ومنزل هذا القرآن، يأخذ القلوب تارة بالقرع والطرق. وتارة باللمس الناعم الرفيق، وتارة بالبيان الهادئ الرقيق. حسب تنوعها هي واختلافها. وحسب تنوع حالاتها ومواقفها في ذاتها. وهو اللطيف الخبير. وهو العزيز الحكيم..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
سميت هذه السورة في كثير من المصاحف العتيقة بتونس وكتب التفسير وفي صحيح البخاري {سورة الجاثية} معرفا باللام.
وتسمى {حم الجاثية} لوقوع لفظ {جاثية} فيها ولم يقع في موضع آخر من القرآن واقتران لفظ {الجاثية} بلام التعريف في اسم السورة مع أن اللفظ المذكور فيها خلي عن لام التعريف لقصد تحسين الإضافة، والتقدير: سورة هذه الكلمة، أي السورة التي تذكر فيها هذه الكلمة، وليس لهذا التعريف فائدة غير هذه، وذلك تسمية حم غافر، وحم الزخرف.
وتسمى سورة شريعة لوقوع لفظ {شريعة} فيها ولم يقع في موضع آخر من القرآن.
وتسمى سورة الدهر لوقوع {وما يهلكنا إلا الدهر} فيها ولم يقع لفظ الدهر في ذوات حم الأخر.
وعن ابن عباس أنها نزلت عن عمر بن الخطاب شتمه رجل من المشركين بمكة فأراد أن يبطش به فنزلت.
الابتداء بالتحدي بإعجاز القرآن وأنه جاء بالحق توطئة لما سيذكر بأنه حق كما اقتضاه قوله {تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق}. وإثبات انفراد الله تعالى بالإلهية بدلائل ما في السماوات والأرض من آثار خلقه وقدرته في جواهر الموجودات وأعراضها وإدماج ما فيها مع ذلك من نعم يحق على الناس شكرها لا كفرها. ووعيد الذين كذبوا على الله والتزموا الآثام بالإصرار على الكفر والإعراض عن النظر في آيات القرآن والاستهزاء بها. والتنديد على المشركين إذ اتخذوا آلهة على حسب أهوائهم وإذ جحدوا البعث، وتهديدهم بالخسران يوم البعث، ووصف أهوال ذلك وما أعد فيه من العذاب للمشركين ومن رحمة للمؤمنين. ودعاء المسلمين للإعراض عن إساءة الكفار لهم والوعد بأن الله سيخزي المشركين. ووصف بعض أحوال يوم الجزاء. ونظر الذين أهملوا النظر في آيات الله مع تبيانها وخالفوا على رسولهم صلى الله عليه وسلم فيما فيه صلاحهم بحال بني إسرائيل في اختلافهم في كتابهم بعد أن جاءهم العلم وبعد أن اتبعوه فما ظنك بمن خالف آيات الله من أول وهلة تحذيرا لهم من أن يقعوا فيما وقع فيه بنو إسرائيل من تسليط الأمم عليهم وذلك تحذير بليغ. وذلك تثبيت للرسول صلى الله عليه وسلم بأن شأن شرعه مع قومه كشأن شريعة موسى لا تسلم من مخالف، وأن ذلك لا يقدح فيها ولا في الذي جاء بها، وأن لا يعبأ بالمعاندين ولا بكثرتهم إذ لا وزن لهم عند الله...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
هذه السورة وهي سادس الحواميم من السور المكية، وقد نزلت في وقت كانت المواجهة بين المسلمين ومشركي مكّة قد اشتدت وسادت الأجواء الاجتماعية في مكّة، ولذلك فإنّها أكّدت على المسائل المتعلقة بالتوحيد، ومحاربة الشرك، وتهديد الظالمين بمحكمة القيامة، والتنبيه إلى كتابة الأعمال وتسجيلها، وكذلك التنبيه إلى عاقبة الأقوام المتمردين الماضين.
ويمكن تلخيص محتوى هذه السورة في سبعة فصول:
بيان جانب من دلائل التوحيد أمام المشركين.
ذكر بعض ادعاءات الدهريين، والردّ عليها بجواب قاطع.
إشارة وجيزة إلى عاقبة بعض الأقوام الماضين كبني إسرائيل كشاهد على مباحث هذه السورة.
تهديد الضالين المصرين على عقائدهم المنحرفة والمتعصبين لها تهديداً شديداً.
الدعوة إلى العفو والصفح، لكن مع الحزم وعدم الانحراف عن طريق الحق.
الإشارات البليغة المعبرة إلى مشاهد القيامة المهولة، وخاصة صحيفة الأعمال التي تشتمل على كلّ أعمال الإنسان دون زيادة أو نقصان.
وتبدأ هذه السورة بصفات وأسماء الله عز وجل العظيمة كالعزيز والحكيم، وتنتهي بها أيضاً.
اعلم أن قوله {حم، تنزيل الكتاب} وجوها:
الثاني: أن يكون قوله {حم} في تقدير: هذه حم ثم نقول {تنزيل الكتاب} واقع من الله العزيز الحكيم.
الثالث: أن يكون {حم} قسما و {تنزيل الكتاب} نعتا له، وجواب القسم {إن في السموات} والتقدير: وحم الذي هو تنزيل الكتاب أن الأمر كذا وكذا.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
يذكر الحرفين: حا. ميم، ويذكر بعدهما تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم. وفيهما دلالة على مصدر الكتاب، كما أسلفنا الحديث عن الأحرف المقطعة في أوائل السور. من ناحية أن هذا الكتاب المعجز مصوغ من مثل هذه الأحرف، وهم لا يقدرون على شيء منه،
فهذه دلالة قائمة على أن تنزيل هذا الكتاب من الله (العزيز) القادر الذي لا يعجزه شيء. (الحكيم) الذي يخلق كل شيء بقدر، ويمضي كل أمر بحكمة. وهو تعقيب يناسب جو السورة وما تتعرض له من ألوان النفوس.
سورة الجاثية{[1]} وتسمى{[2]} الشريعة
مقصودها الدلالة على أن منزل {[3]}هذا الكتاب{[4]}-كما دل عليه في{[5]} الدخان- ذو العزة ؛لأنه لا يغلبه شيء ، وهو يغلب كل شيء ، والحكمة ؛ لأنه لم يضع شيئا إلا في أحكم مواضعه ، فعلم أنه المختص بالكبرياء فوضع شرعا[ هو-{[6]} ] في غاية الاستقامة لا تستقل العقول بإدراكه ولا يخرج شيء منه عنه ، أمر فيه ونهي ، ورغب[ ورهب-{[7]} ] ثم بطن حتى أنه لا يعرف ، ثم ظهر حتى أنه لا يجهل ، فمن المكلفين [ من حكم-{[8]} ]عقله وجانب هواه فشهد جلاله فسمع وأطاع ، ومنهم من تبع هواه فضل عن نور العقل فزاغ وأضاع{[9]} فاقتضت الحكمة ولا بد أن يجمع سبحانه الخلق ليوم الفصل فيظهر كل الظهور ويدين عباده ليشهد رحمته المطيع وكبرياءه العاصي ، وينشر العدل ويظهر الفضل ، ويتجلى في جميع صفاته لجميع خلقه ، وعلى ذلك دل اسمها الشريعة ، واسمها الجاثية واضح الدلالة فيه إذا تؤمل كل من آيتيهما-والله سبحانه وتعالى الهادي . { بسم الله } الذي تفرد بتمام العز والكبرياء { الرحمن } الذي أحكم رحمته بالبيان العام للسعداء والأشقياء ( الرحيم ) الذي خص بملابس طاعته الأولياء .
{ حم * } أي حكمة محمد إليها المنتهى{[57803]} كما تقدم في الدخان ما أفهم إنزاله من أم الكتاب جملة إلى بيت العزة ، ودل على بركته مما دل على حكمة منزله وعزته{[57804]} بالبشارة والنذارة والإيقاع بالمجرمين بعد طول الحلم{[57805]} والأناة والنجاة للمتقين وغير ذلك من أمور هي في غاية الدلالة على ذلك ؛ لأنها راجعة إلى الحس لمن ألقى السمع ، وهو شهيد ، وأشار إلى سهولتها {[57806]}على من{[57807]} تأمل هذا الذكر المترجم بلسان أعلى الخلق وأكملهم وأشرفهم خلائق{[57808]} وأفضلهم .