بنيناها : أحكمنا بناءها ، فجعلناها بغير عمد .
وزيناها : بالكواكب على أبدع نظام ، وأكمل إحكام .
6- { أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج } .
أفلم ينظر هؤلاء الكفار بأم أعينهم إلى السماء فوقهم ، وهي قبة مترامية الأطراف ، لا تعتمد على أعمدة ليتأملوا في هذه القبة الزرقاء ، { كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج } .
كيف أحكمنا بناءها ، ورفعنا بنيانها بدون عمد يرونها ، وزيناها بالنجوم ، كالثريا التي تزين المنازل ، ولم نجعل في السماء شقوقا ولا عيوبا ولا تصدعا .
{ فروج } . جمع فرج ، وهو الشق بين الشيئين ، والمراد : سلامتها من كل عيب وخلل .
كما قال سبحانه وتعالى : { الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ } . ( الملك : 3 ، 4 ) .
أي : لن تجد في السماء عيبا ولا تشققا ولا تصدعا ولا خللا ، ومهما بحثت عن عيب وكررت النظر مرارا ، فسينقلب البصر كليلا متعبا ، بعد لَأْي وجهد لأنه لم يجد أي عيب في السماء ، وقد جعل الله النجوم في السماء لثلاثة أهداف :
الثاني : أنها هداية للسائرين في الصحراء والبحار ، ليعرفوا بها الجهات الأربع الأصلية ، ومن ثم يهتدون إلى الطريق الذي يسلكونه .
الثالث : أنها رجوم وشهب وتصيب الشياطين ، الذين يحاولون استراق السمع من السماء .
قال تعالى : { إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ ( 6 ) وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ ( 7 ) لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ ( 8 ) دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ ( 9 ) إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ ( 10 ) } ( الصافات : 6- 10 ) .
وقال سبحانه وتعالى : { وعلامات وبالنجم هم يهتدون } . ( النحل : 16 ) .
{ 6-11 } { أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ * وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ * وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ * رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ }
لما ذكر تعالى حالة المكذبين ، وما ذمهم به ، دعاهم إلى النظر في آياته{[813]} الأفقية ، كي يعتبروا ، ويستدلوا بها ، على ما جعلت أدلة عليه فقال : { أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ } أي : لا يحتاج ذلك النظر إلى كلفة وشد رحل ، بل هو في غاية السهولة ، فينظرون { كَيْفَ بَنَيْنَاهَا } قبة مستوية الأرجاء ، ثابتة البناء ، مزينة بالنجوم الخنس ، والجوار الكنس ، التي ضربت من الأفق إلى الأفق في غاية الحسن والملاحة ، لا ترى فيها عيبًا ، ولا فروجًا ، ولا خلالًا ، ولا إخلالاً .
قد جعلها الله سقفًا لأهل الأرض ، وأودع فيها من مصالحهم الضرورية ما أودع .
قوله تعالى : " أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم " نظر اعتبار وتفكر ، وأن القادر على إيجادها قادر على الإعادة . " كيف بنيناها " فرفعناها بلا عمد " وزيناها " بالنجوم " وما لها من فروج " جمع فرج وهو الشق ، ومنه قول امرىء القيس :
تَسُدُّ به فرجَهَا من دُبُرْ{[14149]}
ولما أخبرهم أنهم قالوا عن غير تأمل أنكر عليهم ذلك موبخاً لهم دالاًّ على صحة ما أنكروه وفساد إنكارهم بقوله ، مسبباً عن عجلتهم إلى الباطل ، { أفلم ينظروا } أي بعين البصر والبصيرة { إلى السماء } أي المحيطة بهم وبالأرض التي هم عليها . ولما كان هذا اللفظ يطلق على كل ما علا من سقف وسحاب وغيره وإن كان ظاهراً في السقف المكوكب حققه بقوله : { فوقهم } فإن غيرها إنما هو فوق ناس منهم لا{[61087]} فوق الكل . ولما كان أمرها عجباً ، فهو أهل لأن يسأل عن كيفيته دل عليه بأداة الاستفهام فقال : { كيف بنيناها } أي أوجدناها على ما لنا من المجد والعزة مبنية كالخيمة إلا أنها من غير عمد { وزيناها } أي بما فيها من الكواكب الصغار والكبار السيارة والثابتة { وما } أي والحال أنه ما { لها } وأكد النفي بقوله : { من فروج * } أي فتوق وطاقات وشقوق ، بل هي ملساء متلاصقة الأجزاء ، فإن كانت هذه الزينة من تحتها فالذي أوقع ذلك على هذا الإحكام الذي يشاهدونه بما فيه من{[61088]} المنافع والستر الذي لا يختل على مر الجديدين ، فهو من القدرة بحيث لا يعجزه شيء ، وإن كانت الزينة من فوقها فكذلك ، وإن كان بعضها من فوق وبعضها من تحت فالأمر عظيم ، وهذا يدل على أن السماء كرة مجوفة الوسط مقببة كالبيضة ، فإن نفي الفروج فيها على هذا الوجه المؤكد يدل على ذلك دلالة ظاهرة ، وأفرد السماء ولم يجمع لأن بناءها على ما ذكر{[61089]} وإن كانت واحدة يدل على كمال القدرة ، فإن البناء المجوف لا يمكن بانيه إكمال{[61090]} بنائه من غير أن يكون له فروج ، وإن اختل ذلك كان موضع الوصل ظاهراً للرائين ما فيه من فتور وشقوق وقصور وما يشبه ذاك{[61091]} ، ولم يمكنه مع{[61092]} ذلك الخروج منه ، إن كان داخله فلم يقدر على حفظ خارجه ، وإن كان خارجه لم يتمكن من حفظ داخله{[61093]} ، وهذا الكون محفوظ من ظاهره وباطنه ، فعلم أن صانعه منزه عن الاتصاف بما تحيط به العقول بكونه داخل العلم أو خارجه أو متصلاً به أو منفصلاً عنه ، أو محتاجاً في الصنعة إلى إله أو في الحفظ إلى ظهير أو معين ، وجمع الفرج للدلالة على إرادة الجنس بالسماء بعد ما أفاده إفراد لفظها ، فيدل الجمع مع{[61094]} إرادة الجنس على{[61095]} التوزيع ، مع الإفهام إلى أن الباني لو احتاج في هذا الخلق الواسع الأطراف المتباعد الأكناف إلى فرج واحد لاحتاج{[61096]} إلى فروج كثيرة .
فإن هذا الجرم الكبير لا يكفي فيه فرج واحد لمن يحتاج إلى الحركة ، فنزل كلام العليم{[61097]} الخبير على مثل هذه المعاني ، ولا يظن أنه غيرت فيه صنعة من الصنع لأجل الفاصلة فقط ، فإن ذلك لا يكون إلا من محتاج ، والله{[61098]} متعال عن ذلك ، ويجوز - وهو أحسن - أن يراد بالفروج قابلية الإنبات لتكون - مثل الأرض - يتخللها المياه فيمتد فيها عروق الأشجار والنبات وتظهر منها ، وأن يراد بها الخلل كقوله تعالى
{ ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور }[ الملك : 3 ] أي خلل واختلاف وفساد ، وهو لا ينفي الأبواب والمصاعد - والله أعلم .