مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{أَفَلَمۡ يَنظُرُوٓاْ إِلَى ٱلسَّمَآءِ فَوۡقَهُمۡ كَيۡفَ بَنَيۡنَٰهَا وَزَيَّنَّـٰهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٖ} (6)

قوله تعالى : { أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج } .

إشارة إلى الدليل الذي يدفع قولهم { ذلك رجع بعيد } وهذا كما في قوله تعالى : { أوليس الذي خلق السموات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم } وقوله تعالى : { لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس } وقوله تعالى : { أولم يروا أن الله الذي خلق السموات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيى الموتى بلى } وفيه مسائل :

المسألة الأولى : همزة الاستفهام تارة تدخل على الكلام ولا واو فيه ، وتارة تدخل عليه وبعدها واو ، فهل بين الحالتين فرق ؟ نقول فرق أدق مما على الفرق ، وهو أن يقول القائل : أزيد في الدار بعد ، وقد طلعت الشمس ؟ يذكره للإنكار ، فإذا قال : أو زيدا في الدار بعد ، وقد طلعت الشمس ؟ يشير بالواو إشارة خفية إلى أن قبح فعله صار بمنزلة فعلين قبيحين ، كأنه يقول بعد ما سمع ممن صدر عن زيد هو في الدار ، أغفل وهو في الدار بعد ، لأن الواو تنبئ عن ضيف أمر مغاير لما بعدها وإن لم يكن هناك سابق لكنه يومئ بالواو إليه زيادة في الإنكار ، فإن قيل قال في موضع { أو لم ينظروا } وقال هاهنا { أفلم ينظروا } بالفاء فما الفرق ؟ نقول هاهنا سبق منهم إنكار الرجع فقال بحرف التعقيب بمخالفه ، فإن قيل ففي يس سبق ذلك بقوله قال : { من يحيى العظام } نقول هناك الاستدلال بالسموات لما لم يعقب الإنكار على عقيب الإنكار استدل بدليل آخر ، وهو قوله تعالى : { قل يحييها الذي أنشأها أول مرة } ثم ذكر الدليل الآخر ، وهاهنا الدليل كان عقيب الإنكار فذكر بالفاء ، وأما قوله هاهنا بلفظ النظر ، وفي الأحقاف بلفظ الرؤية ، ففيه لطيفة وهي أنهم هاهنا لما استبعدوا أمر الرجع بقولهم { ذلك رجع بعيد } استبعد استبعادهم ، وقال : { أفلم ينظروا إلى السماء } لأن النظر دون الرؤية فكأن النظر كان في حصول العلم بإنكار الرجع ولا حاجة إلى الرؤية ليقع الاستبعاد في مقابلة الاستعباد ، وهناك لم يوجد منهم بإنكار مذكور فأرشدهم إليه بالرؤية التي هي أتم من النظر ، ثم إنه تعالى كمل ذلك وجمله بقوله { إلى السماء } ولم يقل في السماء لأن النظر في الشيء ينبئ عن التأمل والمبالغة والنظر إلى الشيء ينبئ عنه ، لأن إلى للغاية فينتهي النظر عنده في الدخول في معنى الظرف فإذا انتهى النظر إليه ينبغي أن ينفذ فيه حتى يصح معنى الظرفية وقوله تعالى : { فوقهم } تأكيد آخر أي وهو ظاهر فوق رؤوسهم غير غائب عنهم ، وقوله تعالى : { كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج } إشارة إلى وجه الدلالة وأولوية الوقوع وهي للرجع ، أما وجه الدلالة فإن الإنسان له أساس هي العظام التي هي كالدعامة وقوى وأنوار كالسمع والبصر فبناء السماء أرفع من أساس البدن ، وزينة السماء أكمل من زينة الإنسان بلحم وشحم . وأما الأولوية فإن السماء ما لها من فروج فتأليفها أشد ، وللإنسان فروج ومسام ، ولا شك أن التأليف الأشد كالنسج الأصفق والتأليف الأضعف كالنسج الأسخف ، والأول أصعب عند الناس وأعجب ، فكيف يستبعدون الأدون مع علمهم بوجود الأعلى من الله تعالى ؟ قالت الفلاسفة الآية دالة على أن السماء لا تقبل الخرق ، وكذلك قالوا في قوله { هل ترى من فطور } وقوله { سبعا شدادا } وتعسفوا فيه لأن قوله تعالى : { ما لها من فروج } صريح في عدم ذلك ، والإخبار عن عدم الشيء لا يكون إخبارا عن عدم إمكانه فإن من قال : ما لفلان قال ؟ لا يدل على نفي إمكانه ، ثم إنه تعالى بين خلاف قولهم بقوله { وإذا السماء فرجت } وقال : { إذا السماء انفطرت } وقال : { فهي يومئذ واهية } في مقابلة قوله { سبعا شدادا } وقال : { فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان } إلى غير ذلك والكل في الرد عليهم صريح وما ذكروه في الدلالة ليس بظاهر ، بل وليس له دلالة خفية أيضا ، وأما دليلهم المعقول فأضعف وأسخف من تمسكهم بالمنقول .