تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته  
{صٓۚ وَٱلۡقُرۡءَانِ ذِي ٱلذِّكۡرِ} (1)

مقدمة السورة:

أهداف سورة " ص "

سورة " ص " سورة مكية ، نزلت في الفترة المتوسطة من حياة المسلمين بمكة ، فيما بين الهجرة إلى الحبشة والإسراء ، وآياتها 88 آية . وسميت بهذا الاسم لابتدائها بهذا الحرف .

مقاصد السورة

قال الفيروزبادى :

معظم مقصود سورة " ص " بيان تعجب الكفار من نبوة المصطفى صلى الله عليه وسلم ، ووصف الكافرين لرسول الله بالاختلاق والافتراء ، واختصاص الحق تعالى بملك الأرض والسماء ، وظهور أحوال يوم القضاء وعجائب حديث داود وأوريا ، وقصة سليمان ، وذكر قصة أيوب في الابتلاء والشفاء ، وذكر إبراهيم وأولاده من الأنبياء ، وحكاية أحوال ساكني جنة المأوى ، وعجز حال الأشقياء في سقر ولظى ، وواقعة إبليس مع آدم وحواء ، وتهديد الكفار على تكذيبهم للمجتبى {[1]} .

قال تعالى : { إن هو إلا ذكر للعالمين * ولتعلمن نبأه بعد حين } . [ ص : 87 ، 88 ] .

قضايا السورة

أثارت سورة " ص " عددا من القضايا أهمها : قضية التوحيد ، وقضية الوحي ، وقضية الحساب في الآخرة ، وقد عرضت هذه القضايا الثلاث في مطلعها ، الذي يمثل الدهشة والاستغراب من كبار المشركين في مكة ، حين جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى التوحيد ، وساقت السورة شبهات الكافرين حول قضية الوحي .

فقد استكثروا أن يختار الله سبحانه رجلا منهم لينزل عليه الذكر من بينهم ، وان هذا الرجل هو محمد ابن عبد الله الذي لم تسبق له رئاسة فيهم ولا إمارة فقالوا : { أأنزل عليه الذكر من بيننا . . . } [ ص : 8 ) ] .

وبينت السورة لهم أن رحمة الله لا يمسكها شيء إذا أراد أن يفتحها على من يشاء ، وانه ليس للبشر شيء من ملك السماوات والأرض ، وإنما يفتح الله رزقه ورحمته على من يشاء . . وأنه يختار من عباده من يعلم استحقاقهم للخير ، وينعم عليهم بشتى الإنعامات بلا لا قيد ولا حد ولا حساب . . وفي هذا السياق جاءت قصة داود وقصة سليمان ، وما أغدق الله عليهما من النبوة والملك ، ومن تسخير الجبال والطير ، وتسخير الجن والريح ، فوق الملك وخزائن الأرض والسلطان والمتاع ، وجاء مع القصتين توجيه النبي صلى الله علية وسلم إلى الصبر على ما يلقاه من المكذبين : { اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب } . [ ص : 17 ] .

كذلك جاءت قصة أيوب تصور ابتلاء الله للمخلصين من عباده بالضراء ، وصبر أيوب مثل في الصبر رفيع ، وتصور السورة حسن العاقبة للصابرين .

ونلاحظ أن السياق يجري في سورة " ص " فيربط بين أربعة موضوعات رئيسية ، هي شبه الكافرين ، وقصص الأنبياء ، والمقابلة بين نعيم المتقين وعذاب الكافرين ، ثم قصة خلق آدم وسجود الملائكة له وإباء إبليس .

1 – شبهات الكافرين

تشمل الآيات من ( 1-16 ) على شبه الكافرين حول بشرية الرسول ، واختصاصه بالوحي ، وإنكار توحيد الآلهة في إله واحد ، والرد على هذه المفتريات ، وبيان جزاء المكذبين ، من قوم نوح وعاد ، وفرعون وثمود ، وقوم لوط وأصحاب الأيكة ، { إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب } . [ ص : 14 ]

2-قصص الأنبياء

تشمل الآيات من ( 17-48 ) على قصص وأمثلة من حياة الرسل صلوات الله عليهم .

وفي هذا القصص بيان لآثار رحمة الله بالرسل من قبل ، وتذكير بما أغدق الله عليهم من نعمة وفضل ، وبما آتاهم من ملك وسلطان ومن رعاية وإنعام ، وذلك ردّا على عجب الكافرين من اختيار الله لمحمد رسولا من بينهم ، وما هو ببدع من الرسل ، وفيهم من آتاه الله إلى جانب الرسالة الملك والسلطان ، وفيهم من سخر له الجبال يسبحن معه والطير ، وفيهم من سخر الله له الريح والشياطين ، كداود وسليمان . . فما وجه العجب أن يختار الله محمدا الصادق ، لينزل عليه الذكر من بين قريش من آخر الزمان .

كذلك يصور هذا القصص رعاية الله الدائمة لرسله ، وحياطتهم بتوجيهه وتأديبه فقد كانوا بشرا – كما أن محمدا صلى الله عليه وسلم بشر- وكان فيهم ضعف البشر ، وكان الله يرعاهم فلا يدعهم لضعفهم ، وإنما يبين لهم ويوجههم ، ويبتليهم ليغفر لهم ويكرمهم ، وفي هذا ما يطمئن قلب الرسول إلى رعاية ربه له ، وحمايته له من أذى المشركين ، وفي تلك القصص سلوى ومواساة لما لقيه النبي من تكذيب واتهام وتعجيب وافتراء ، وفيه دعوة إلى الصبر حتى ينال رضوان الله ، كما ناله السابقون من الأنبياء .

3-النعيم والجحيم

تعرض الآيات من ( 49-64 ) مشهد المؤمنين في الجنة ، وقد فتحت أبوابها ، وجرت أنهارها ، وكثر حورها وولدانها ، وتنوعت أرزاقها : { إن هذا لرزقنا ما له من نفاد } . [ ص : 54 ] .

كما تعرض مشهد الطاغين في النار ، وقد اشتد لهيبها ، وتنوع عذابها ، واختصم الأتباع والرؤساء فيها ، وأخذوا يبحثون عن ضعفاء المؤمنين بينهم فلا يجدونهم في النار ، لأن هؤلاء الضعفاء في الجنة والرضوان .

4-سجود الملائكة لآدم

تشمل الآيات من 65 إلى آخر السورة على تأكيد وحدانية الله ، وشمول قدرته وملكه لما في السماوات والأرض .

وتستعرض قصة آدم وسجود الملائكة له ، كدليل على أن هؤلاء الملائكة لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ، كما تتضمن القصة لونا من الحسد في نفس الشيطان ، هو الذي أبعده وطرده من رحمة الله ، حينما استكثر على آدم فضل الله الذي أعطاه ، وفي هذا إيحاء لهم ألا يستكثروا على محمد فضل الرسالة وتبليغ وحي السماء ، كذلك تصور الآيات المعركة المستمرة بين الشيطان وأبناء آدم ، والتي لا يهدأ أوارها ، ولا ينفع أوزارها ، والتي يهدف من ورائها إلى إيقاع أكبر عدد منهم في حبائله ، لإيرادهم النار معه ، انتقاما من أبيهم آدم ، وقد كان طرد إبليس من الجنة بسبب امتناعه من السجود له ، فالمعركة بين إبليس وذرية آدم معروفة الأهداف ، ولكن أبناء آدم يستسلمون لعدوهم القديم .

وتختم السورة بتوكيد قضية الوحي ، وإخلاص الرسول في تبليغ الرسالة ، لا يبتغي أجرا ولا يتكلف قولا ، وإنما يبلغ القرآن ، وسيكون لهذا القرآن أبلغ الأثر في حياة البشرية .

تفنيد عقائد المشركين

بسم الله الرحمن الرحيم

{ ص والقرآن ذي الذكر ( 1 ) بل الذين كفروا في عزة وشقاق ( 2 ) كم أهلكنا من قبلهم من قرن فنادوا ولات حين مناص ( 3 ) وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب ( 4 ) أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب ( 5 ) وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشيء يراد ( 6 ) ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق ( 7 ) أأنزل عليه الذكر من بيننا بل هم في شك من ذكري بل لما يذوقوا عذاب ( 8 ) أم عندهم خزائن رحمة ربك العزيز الوهاب ( 9 ) أم لهم ملك السماوات والأرض وما بينهما فليرتقوا في الأسباب ( 10 ) جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب ( 11 ) }

المفردات :

ص : حرف للتنبيه ، كالجرس الذي يقرع فيتنبه التلاميذ لدخول المدرسة .

ذي الذكر : ذي الشرف ، أو الموعظة .

1

التفسير :

1- { ص والقرآن ذي الذكر } .

بدأ القرآن الكريم بعض السور بحروف المعجم ، مثل : ص ، ق ، ن ، حم ، ألم . . . . . .

وهي حروف للتنبيه ، كالجرس الذي يقرع فينبه التلاميذ لدخول المدرسة ، كذلك القرآن عندما يفتتح بعض السور بهذه الأحرف ، يتنبه الكافرون لهذا الأمر العجيب ، ثم يقول : { والقرآن ذي الذكر } .

وقيل : هي حروف للتحدي والإعجاز ، وقيل : هي حروف للقسم ، باعتبار أن القرآن مكوّن من هذه الأحرف ، أي أقسم ب : ص ، وأقسم بالقرآن ذي الذكر .

{ والقرآن ذي الذكر } .

أي : والقرآن ذي الشرف والمنعة والمكانة العالية ، أو القرآن المشتمل على تذكير الناس ووعظهم بما ينفعهم في المعاش والميعاد ، ولا منافاة بين القولين ، فالقرآن كتاب شريف ، والقرآن مشتمل على التذكير والإنذار وأسباب الهداية ، وبذلك يسود الناس ، وينتقلون من كمّ مهمل إلى أمة متحضرة منظمة ، لها فكر ونظام ، وقوة واحترام .

قال تعالى : { وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون } . [ الزخرف : 44 ]

أي : إنه شرف لك أن ينزل عليك وحي السماء ، وشرف لقومك إذا اتبعوه وعملوا به ، وجواب القسم محذوف دل عليه السياق ، تقديره : إن القرآن حق ، أو إنه لمعجز أو إن محمدا لصادق ، أو إن البعث حق ، ويفهم الجواب من روح القرآن وأفكاره ، في السابق واللاحق .


[1]:- حاشية الجمل 2/647 نقلا عن تفسير الخازن.