جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَقَالَ مُوسَىٰ يَٰقَوۡمِ إِن كُنتُمۡ ءَامَنتُم بِٱللَّهِ فَعَلَيۡهِ تَوَكَّلُوٓاْ إِن كُنتُم مُّسۡلِمِينَ} (84)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالَ مُوسَىَ يَقَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكّلُوَاْ إِن كُنتُم مّسْلِمِينَ } .

يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل موسى نبيه لقومه : يا قوم إن كنتم أقررتم بوحدانية الله وصدّقتم بربوبيته . فَعَلَيْهِ تَوَكّلُوا يقول : فبه فثقوا ، ولأمره فسلّموا ، فإنه لن يخذل وليه ويسلم من توكل عليه . وإنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ يقول : إن كنتم مذعنين لله بالطاعة ، فعليه توكلوا .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَقَالَ مُوسَىٰ يَٰقَوۡمِ إِن كُنتُمۡ ءَامَنتُم بِٱللَّهِ فَعَلَيۡهِ تَوَكَّلُوٓاْ إِن كُنتُم مُّسۡلِمِينَ} (84)

وقوله تعالى : { وقال موسى - إلى - الكافرين } ، ابتداء حكاية قول موسى لجماعة بني إسرائيل المؤمنين منهم مؤنساً لهم ونادباً إلى التوكل على الله الذي بيده النصر ومسألة التوكل متشعبة للناس فيها خوضات ، والذي أقول : إن التوكل الذي يأمرنا له هو مقترن بتسبب جميل على مقتضى الشرع ، وهو الذي في قوله صلى الله عليه وسلم «قيدها وتوكل »{[6197]} فقد جعله متوكلاً مع التقييد والنبي صلى الله عليه وسلم رأس المتوكلين وقد تسبب عمره كله ، وكذلك السلف كله ، فإن شذ متوكل فترك التسبب جملة فهي رتبة رفيعة ما لم يسرف بها إلى حد قتل نفسه وإهلاكها ، كمن يدخل غاراً خفياً يتوكل فيه فهذا ونحوه مكروه عند جماعة من العلماء ، وما روي من إقدام عامر بن قيس على الأسد ونحو ذلك كله ضعيف ، وللصحيح منه قرائن تسهله ، وللمسلمين أجمعين قال الله تعالى { ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم }{[6198]} ، ولهم قال { وعلى الله فتوكلوا }{[6199]} ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم في مدح السبعين ألفا من أمته : { وعلى ربهم يتوكلون }{[6200]} ليس فيه أنهم يتركون التسبب جملة واحدة ولا حفظ عن عكاشة أنه ترك التسبب بل كان يغزو ويأخذ سهامه{[6201]} ، وأعني بذلك ترك التسبب في الغذاء ، وأما ترك التسبب في الطب فسهل وكثير من الناس جبل عليه دون نية وحسبة ، فكيف بمن يحتسب ، وقال لهم : { إن كنتم آمنتم } مع علمه بإيمانهم على جهة إقامة الحجة وتنبيه الأنفس و «إثارة الأنفة كما تقول ، إن كنت رجلاً فقاتل ، تخاطب بذلك رجلاً تريد إقامة نفسه ، وقوله { إن كنتم مسلمين } ، يريد أهل طاعة منضافة إلى الإيمان المشروط ، فذكر الإسلام فيه زيادة معنى .


[6197]:- أخرجه البيهقي في "الشعب" عن عمرو بن أمية الضمري، ورواه ابن حبان في صحيحه عن عمرو بن أمية أيضا بلفظ: (اعقلها وتوكل)، وبنفس اللفظ رواه الترمذي عن أنس رضي الله عنه، وأخرجه ابن خزيمة والطبراني من طريق عمرو بن أمية الضمري بإسناد جيد بلفظ (قيدها وتوكل). ورمز له السيوطي في "الجامع الصغير" بالضعف، غير أن المناوي نقلا عن الزركشي قال: إن القطّان إنما أنكره من حديث أنس، هذا وقد سبق الاستشهاد به في الجزء الثالث ص 400 من هذا التفسير.
[6198]:- من الآية (198) من سورة (البقرة).
[6199]:-من الآية (23) من سورة (المائدة).
[6200]:- من الآية (2) من سورة (الأنفال).
[6201]:- عُكاشة بن محصن صحابي جليل، شهد المشاهد كلها مع النبي صلى الله عليه وسلم، وقُتل في حرب الردة، وقد ذكر في الصحيحين في حديث ابن عباس رضي الله عنهما في السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب، فقال عكاشة حين سمع ذلك: ادع الله أن يجعلني منهم (فقال صلوات الله وسلامه عليه: أنت منهم)-ومع أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بشره بالجنة، فإنه ما تأخر عن الأخذ بالأسباب، فاشترك في كل الحروب والغزوات، وهذا عند ابن عطية دليل على أن التوكل على الله لا يتنافى مع الأخذ بالأسباب.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَقَالَ مُوسَىٰ يَٰقَوۡمِ إِن كُنتُمۡ ءَامَنتُم بِٱللَّهِ فَعَلَيۡهِ تَوَكَّلُوٓاْ إِن كُنتُم مُّسۡلِمِينَ} (84)

عطف بقية القصة على أولها فهو عطف على جملة { وقال فرعون } [ يونس : 79 ] ، وهذا خطاب موسى لجميع قومه وهم بنو إسرائيل الذين بمصر ، وهو يدل على أنه خاطبهم بذلك بعد أن دعاهم وآمنوا به كما يؤذن به قوله : { إن كنتم آمنتم بالله } . والغرض منه تثبيت الذين آمنوا به في حضرة فرعون على توكلهم ، وأمْرُ مَن عداهم الذين خاف ذريتُهم أن يؤنبوهم على إظهار الإيمان بأن لا يُجبِّنوا أبناءهم ، وأن لا يخشوا فرعون ، ولذلك قال : { إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا } .

والمعنى : إن كنتم آمنتم بالله حقاً كما أظهرتْه أقوالكم فعليه اعتمدوا في نصركم ودفع الضر عنكم ولا تعتمدوا في ذلك على أنفسكم بمصانعة فرعون ولا على فرعون بإظهار الولاء له .

وأراد إثارة صدق إيمانهم وإلهابَ قلوبهم بجعل إيمانهم معلقاً بالشرط محتمل الوقوع ، حيث تخوفوا من فرعون أن يفتنهم فأرادوا أن يكتموا إيمانهم تقية من فرعون وملئهم ، وإنما جَعل عدم اكتراثهم ببطش فرعون علامة على إيمانهم لأن الدعوة في أول أمرها لا تتقوم إلا بإظهار متبعيها جماعتَهم ، فلا تغتفر فيها التقية حينئذٍ . وبذلك عمل المسلمون الأولون مثل بلال ، وعمار ، وأبي بكر ، فأعلنوا الإيمان وتحملوا الأذى ، وإنما سوغت التقية للآحاد من المؤمنين بعد تقوم جامعة الإيمان فذلك محل قوله تعالى : { من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان } [ النحل : 106 ] .

فتقديم المجرور على متعلقه في قوله : { فعليه توكلوا } لإفادة القصر ، وهو قصر إضافي يفسره قوله : { على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم } [ يونس : 83 ] ، فآل المعنى إلى نهيهم عن مخافة فرعون .

والتوكلُ : تقدم آنفاً في قصة نوح .

وجملة : { إن كنتم مسلمين } شرط ثان مؤكد لشرط { إن كنتم آمنتم بالله } ، فحصل من مجموع الجملتين أن حصول هذا التوكل متوقف على حصول إيمانهم وإسلامهم ، لمزيد الاعتناء بالتوكل وأنه ملازم للإيمان والإسلام ، ومبين أيضاً للشرط الأول ، أي إن كان إيمانكم إيمان مسلم لله ، أي مخلص له غير شائب إياه بتردد في قدرة الله ولا في أن وعده حق ، فَحصَل من مجموع الشرطين ما يقتضي تعليق كل من الشرطين على الشرط الآخر .

وهذا من مسألة تعليق الشرط على الشرط ، والإيمان : تصديق الرسول فيما جاء به وهو عمل قلبي ، ولا يعتبر شرعاً إلا مع الإسلام ، والإسلامُ : النطق بما يدل على الإيمان ولا يعتبر شرعاً إلا مع الإيمان ، فالإيمان انفعال قلبي نفساني ، والإسلام عمل جسماني ، وهما متلازمان في الاعتداد بهما في اتّباع الدين إذ لا يعلم حصول تصديق القلب إلا بالقول والطاعة ، وإذ لا يكون القول حقاً إلا إذا وافق ما في النفس ، قال تعالى : { قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم } [ الحجرات : 14 ] . وقد ورد ذلك صريحاً في حديث سؤال جبريل في « الصحيحين » .

وليس المراد أنهم إن لم يتوكلوا كانوا مؤمنين غير مسلمين ، ولا أنهم إن توكلوا كانوا مسلمين غير مؤمنين ، لأن ذلك لا يساعد عليه التدين بالدين . ومن ثم كان قوله : { فعليه توكلوا } جواباً للشرطين كليهما . أي يقدر للشرط الثاني جواب مماثل لجواب الشرط الأول . هذا هو محمل الآية وما حاوله كثير من المفسرين خروج عن مهيع الكلام .