القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلاّ فَضّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ } . .
يقول تعالى ذكره : وهدينا أيضا من ذرّية نوح إسماعيل ، وهو إسماعيل بن إبراهيم والليسع : هو اليسع بن أخطوب بن العجوز .
واختلف القرّاء في قراءة اسمه ، فقرأته عامة قرّاء الحجاز والعراق : واليَسَعَ بلام واحدة مخففة . وقد زعم قوم أنه «يفعل » ، من قول القائل : وَسِعَ يَسَعُ ، ولا تكاد العرب تُدخِلُ الألف واللام على اسم يكون على هذه الصورة ، أعني : على «يَفْعل » ، لا يقولون : رأيت اليزيد ، ولا أتاني التجيب ، ولا مررت باليشكر ، إلا في ضرورة شعر ، وذلك أيضا إذا تُحُرّي به المدح ، كما قال بعضهم :
وَجَدْنا الوَلِيدَ بْنَ اليَزِيدَ مُبارَكا ***شَدِيدا بأعْباءِ الخِلاَفَةِ كاهِلُهْ
فأدخل في «اليزيد » الألف واللام ، وذلك لإدخاله إياهما في الوليد ، فأتبعه اليزيد بمثل لفظه .
وقرأ ذلك جماعة من قرّاء الكوفيين : واللّيْسَعَ بلامين وبالتشديد ، وقالوا : إذا قرىء كذلك كان أشبه بأسماء العجم . وأنكروا التخفيف وقالوا : لا نعرف في كلام العرب اسما على «يفعل » فيه ألف ولام .
والصواب من القراءة في ذلك عندي قراءة من قرأه بلام واحدة مخففة ، لإجماع أهل الأخبار على أن ذلك هو المعروف من اسمه دون التشديد ، مع أنه اسم أعجميّ فينطق به على ما هو به . وإنما لا يستقيم دخول الألف واللام فيما جاء من أسماء العرب على «يفعل » ، وأما الاسم الذي يكون أعجميّا فإنما ينطق به على ما سموا به ، فإن غُير منه شيء إذا تكلمت العرب فإنما يغير بتقويم حرف منه من غير حذف ولا زيادة فيه ولا نقصان ، واللّيسع إذا شدّد لحقته زيادة لم تكن فيه قبل التشديد . وأخرى أنه لم يحفظ عن أحد من أهل العلم علمنا أنه قال : اسمه «ليسع » ، فيكون مشدّدا عند دخول الألف واللام اللتين تدخلان للتعريف ويُونُسَ هو يونس بن متى ولُوطا وكلاّ فَضّلْنا من ذرية نوح ونوحا ، لهم بيّنا الحقّ ووفقناهم له . وفضلنا جميعهم عَلى العَالَمِينَ يعني : على عالم أزمانهم .
{ وإسماعيل واليسع } هو الليسع بن أخطوب . وقرأ حمزة والكسائي " والليسع " وعلى القراءتين هو علم أعجمي أدخل عليه اللام كما أدخل على اليزيد في قوله :
رأيت الوليد بن اليزيد مباركا *** شديدا بأعباء الخلافة كاهله
{ ويونس } هو يونس بن متى . { ولوطا } هو ابن هاران أخي إبراهيم . { وكل فضلنا على العالمين } بالنبوة ، وفيه دليل على فضلهم على من عداهم من الخلق .
وإسماعيل هو أكبر ولدي إبراهيم عليه السلام وهو من هاجر . [ واليسع ] قال زيد بن أسلم : وهو يوشع بن نون ، وقال غيره : هو أليسع بن أخطوب بن العجوز ، وقرأ جمهور الناس «وأليسع » وقرأ حمزة والكسائي «والليسع » كأن الألف واللام دخلت على فيعل ، قال أبو علي الفارسي : فالألف واللام في «اليسع » زائدة لا تؤثر معنى تعريف لأنها ليست للعهد كالرجل والغلام ولا للجنس كالإنسان والبهائم ولا صفة غالبة كالعباس والحارث ، لأن ذلك يلزم عليه أن يكون «اليسع » فعلاً ، وحينئذ يجري صفة . وإذا كان فعلاً وجب أن يلزمه الفاعل ووجب أن يحكى إذ هي جملة ولو كان كذلك لم يجز لحاق اللام له إذ اللام لا تدخل على الفعل فلم يبق إلا أن تكون الألف واللام زائدة كما هي زائدة في قولهم :«الخمسة عشر درهماً » ، وفي قول الشاعر : [ الرجز ]
*يا ليت أمَّ العمرِ كَانَتْ صَاحبي*{[1]}
بالعين غير منقوطة ، وفي قوله : [ الطويل ]
وَجَدْنَا الوليدَ بْنَ اليزيدِ مُبَارَكاً . . . شديداً بأعباءِ الخلافةِ كاهِلُهْ{[2]}
قال : وأما الليسع فالألف واللام فيه بمنزلتها في الحارث والعباس لأنه من أبنية الصفات ، لكنها بمنزلة «اليسع » في أنه خارج عما عليه الأسماء الأعجمية إذ لم يجىء فيها شيء هو على هذا الوزن كما لم يجىء منها شيء فيه لام تعريف فهما من الأسماء الأعجمية إلا أنهما مخالفات للأسماء فيما ذكر .
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : وأما ( اليزيد ) فإنه لما سمي به أزيل منه معنى الفعل وأفردت فيه الاسمية فحصل علماً وزيدت فيه الألف واللام لا لتعريف ، وقال الطبري دخلت الألف واللام إتباعاً للفظ الوليد ، { ويونس } هو ابن متَّى ويقال يونس ويونَس ويونُس وكذلك يوسِف ويوسَف ويوسُف{[3]} وبكسر النون من يونِس والسين من يوسِف قرأ الحسن وابن مصرف وابن وثاب وعيسى بن عمر والأعمش في جميع القرآن و { العالمين } معناه عالمي زمانهم .
وأمّا إسماعيل فقد تقدّمت ترجمته في سورة البقرة .
واليسع اسمه بالعبرانيّة إليشع بهمزة قطع مكسورة ولام بعدها تحتيّة ثمّ شين معجمة وعين وتعريبه في العربيّة اليسع بهزة وصل ولام ساكنة في أوّله بعدها تحتيّة مفتوحة في قراءة الجمهور .
وقرأه حمزة ، والكسائي ، وخلف « اللَّيْسَع » بهمزة وصل وفتح اللاّم مشدّدة بعدها تحتيّة ساكنة بوزن ضَيْغَم ، فهما لغتان فيه . وهو ابن ( شافاط ) من أهل ( آبل محولة ) . كان فلاّحاً فاصطفاه الله للنّبوءة على يد الرّسول إلياس في مدّة ( آخاب ) وصحب إلياسَ . ولمّا رفع إلياس لازم سيرة إلياس وظهرت له معجزات لبني إسرائيل في ( أريحا ) وغيرها . وتوفّي في مدّة الملك ( يُوءَاش ) ملك إسرائيل وكانت وفاته سنة أربعين وثمانمائة840 قبل المسيح ودفن بالسّامرة .
والألف واللاّم في اليسع من أصل الكلمة ، ولكن الهمزة عوملت معاملة همزة الوصل للتّخفيف فأشبه الاسم الّذي تدخل عليه اللاّم الّتي للمْححِ الأصللِ مثل العبّاس ، وما هي منها .
وأمّا يونس فهو ابن متَّى ، واسمه في العبرانيّة ( يونان بن أمِتَّاي ) ، وهو من سبط ( زَبولُون ) . ويجوز في نونه في العربيّة الضمّ والفتح والكسر . ولد في بلدة ( غاث ايفر ) من فلسطين ، أرسله الله إلى أهْل ( نَيْنوَى ) من بلاد أشور . وكان أهلها يومئذٍ خليطاً من الأشوريين واليهود الّذين في أسر الأشوريّين ، ولمّا دعاهم إلى الإيمان فأبوا توعّدهم بعذاب فتأخّر العذاب فخرج مغاضِباً وذهب إلى ( يافا ) فركب سفينة للفنيقيّين لتذهب به إلى ترشيش ( مدينة غربي فلسطين إلى غربي صور وهي على البحر ولعلّها من مراسي الوجه البحري من مصر أو من مراسي برقة لأنّه وصف في كتب اليهود أنّ سليمان كان يجلب إليه الذهب والفضّة والقرود والطواويس من ترشيش ، فتعيّن أن تكون لترشيش تجارة مع الحبشة أو السّودان ، ومنها تصدر هذه المحصولات . وقيل هي طرطوشة من مراسي الأندلس . وقيل ( قرطاجنّة ) مرسى إفريقيّة قرب تونس . وقد قيل في تواريخنا أنّ تونس كان اسمها قبل الفتح الإسلامي ترشيش . وهذا قريب لأنّ تجارتها مع السّودان قد تكون أقرب ) فهال البحر على السّفينة وثقلت وخيف غرقها ، فاقترعوا فكان يونس ممّن خاب في القرعة فرُمي في البحر والتقمه حوت عظيم فنادى في جوفه : { لا إله إلاّ أنت سبحانك إنّي كنت من الظّالمين } [ الأنبياء : 87 ] ، فاستجاب الله له ، وقذفه الحوت على الشاطىء . وأرسله الله ثانياً إلى أهل نينوى وآمنوا وكانوا يزيدون على مائة ألف . وكانت مدّته في أوّل القرن الثامن قبل الميلاد . ولم نقف على ضبط وفاته . وذكر ابن العربي في « الأحكام » في سورة الصافات أنّ قبره بقرية جلجون بين القدس وبلد الخليل ، وأنّه وقف عليه في رحلته . وستأتي أخبار يونس في سورة يونس وسورة الأنبياء وسورة الصافات .
وأمّا لوط فهو ابن هَارَان بن تارح ، فهو ابن أخي إبراهيم . ولد في ( أور الكلدانيين ) . ومات أبوه قبل تارح ، فاتّخذ تارحُ لوطاً في كفالته . ولمّا مات تارح كان لوط مع إبراهيم ساكنيْن في أرض حاران ( حوران ) بعد أن خرج تارحُ أبُو إبراهيم من أور الكلدانيّين قاصدين أرض كنعان . k وهاجر إبراهيم مع لوط إلى مصر لقحط أصاب بلاد كنعان ، ثمّ رجعا إلى بلاد كنعان ، وافترق إبراهيم ولوط بسبب خصام وقع بين رُعاتهما ، فارتحل لوط إلى ( سَدُوم ) ، وهي من شَرق الأرْدُن إلى أن أوحي إليه بالخروج منها حين قدّر الله خسفها عقاباً لأهلها فخرج إلى ( صوغر ) مع ابنته ونسله هناك ، وهم ( المؤابيون ) و ( بنو عمون ) .
وقوله : { وكلاّ فضّلنا على العالمين } جملة معترضة ، والواو اعتراضيّة ، والتّنوين عوض عن المضاف إليه ، أي كلّ أولئك المذكورين من إسحاق إلى هنا .
و ( كلّ ) يقتضي استغراق ما أضيف إليه . وحكم الاستغراق أن يثبت الحكم لكلّ فرد فرد لا للمجموع . والمراد تفضيل كلّ واحد منهم على العالمين من أهل عصره عدا من كان أفضلَ منه أو مساوياً له ، فاللاّم في { العالمين } للاستغراق العرفي ، فقد كان لوط في عصر إبراهيم وإبراهيم أفضلُ منه . وكان من غيرهما من كانوا في عصر واحد ولا يعرف فضل أحدهم على الآخر . وقال عبد الجبّار : يمكن أن يقال : المراد وكلّ من الأنبياء يُفضّلون على كلّ مَن سواهم من العالمين . ثمّ الكلام بعد ذلك في أنّ أي الأنبياء أفضل من الآخر كلام في غرض آخر لا تعلّق له بالأوّل اه . ولا يستقيم لأنّ مقتضى حكم الاستغراق الحكم على كلّ فردٍ فردٍ .
وتتعلّق بهذه الآية مسألة مهمّة من مسائِل أصول الدّين . وهي ثبوت نبوءة الّذين جرى ذكر أسمائهم فيها ، وما يترتّب على ثبوت ذلك من أحكام في الإيمان وحقّ النّبوءة . وقد أعرض عن ذكرها المفسّرون وكان ينبغي التّعرّض لها لأنَّها تتفرّع إلى مسائل تهمّ طالب العلوم الإسلاميّة مَعرفتُها ، وأحقّ مظِنّة بذكرها هو هذه الآية وما هو بمعنى بعضها . فأمّا ثبوت نبوءة الّذين ذُكرت أسماؤهم فيها فلأنّ الله تعالى قال بعد أن عدّ أسماءهم { أولئك الّذين آتيناهم الكِتاب والحُكم والنّبوءة } . فثبوت النّبوءة لهم أمر متقرّر لأنّ اسم إشارة { أولئك } قريب من النصّ في عوده إلى جميع المسمَّيْنَ قبله مع ما يعضّده ويكمّله من النصّ بنبوءة بعضهم في آيات تماثِل هذه الآية ، مثل آية سورة النّساء ( 163 ) { إنَّا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح } الآيات ، ومثل الآيات من سورة مريم ( 41 ) واذكر في الكتاب إبراهيم الآيات .
وللنّبوءة أحكام كثيرة تتعلّق بموصوفها وبمعاملة المسلمين لمن يتّصف بها . منها معنى النّبيء والرّسوللِ ، ومعنى المعجزة الّتي هي دليلُ تحقّق النّبوءة أو الرّسالة لمن أتى بها ، وما يترتّب على ذلك من وجوب الإيمان بما يبلّغه عن الله تعالى من شرع وآداب ، ومَسائلُ كثيرة من ذلك مبسوطة في علم الكلام فليرجع إليها . إنّما الّذي يهمّنا من ذلك في هذا التّفسير هو ما أومأ به قوله تعالى في آخرها { فإنْ يكفر بها هؤلاء فقد وكّلنا بها قوماً ليسوا بها بكافرين } [ الأنعام : 89 ] . فمن علم هذه الآيات في هذه السّورة وكان عالماً بمعناها وجب عليه الإيمان بنبوءة من جَرت أسماؤهم فيها .
وقد ذكر علماؤنا أنّ الإيمان بأنّ الله أرْسَلَ رسلاً وَنَبَّأ أنبياء لإرشاد النّاس واجب على الجملة ، أيْ إيماناً بإرسال أفرادٍ غير معيّنين ، أو بنبوءة أفراد غير معيّنين دون تعيين شخص معيَّن باسمه ولا غير ذلك ممّا يميّزه عن غيره إلاّ محمّداً صلى الله عليه وسلم قال الشيخ أبو محمّد بن أبي زيد في « الرسالة » « الباعثثِ ( صفة لله تعالى ) الرسلِ إليهم لإقامة الحجّة عليهم » .
فإرسال الرسل جائز في حقّ الله غير واجب ، وهو واقع على الإجمال دون تعيين شخص معيّن . وقد ذكر صاحب »المقاصد » أنّ إرسال الرّسل محتاج إليه ، وهو لطف من الله بخلقه وليس واجباً عليه . وقالت المعتزلة وجمع من المتكلمين ( أي من أهل السنّة ) ممّا وراء النّهر بوجوب إرسال الرّسل عليه تعالى .
ولم يذكر أحد من أيمّتنا وجوب الإيمان بنبيء معيّن غير محمدّ صلى الله عليه وسلم رسولاً إلى الخلق كافّة . قال أبو محمّد بن أبي زيد : « ثُمّ ختَم أي اللّهُ الرّسالةَ والنِّذارةَ والنّبوءةَ بمحمّد نبيئه صلى الله عليه وسلم إلخ » ، لأنّ النّبيء صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الّذي رواه عمر بن الخطّاب من سؤال جبريلَ النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان فقال : " أن تُؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله " إلخ . فلم يعيّن رسلاً مخصوصين . وقال في جواب سؤاله عن الإسلام « الإسلام أن تشهد أنّ لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً رسول الله » .
فمن علم هذه الآيات وفهم معناها وجب عليه الاعتقاد بنبوءة المذكورين فيها . ولعلّ كثيراً لا يقرأونها وكثيراً ممّن يقرأونها لا يفهمون مدلولاتها حقّ الفهم فلا يطالبون بتطلّب فهمها واعتقاد ما دلّت عليه إذ ليس ذلك من أصول الإيمان والإسلام ولكنّه من التّفقّه في الدّين .
قال القاضي عياض في فصللٍ ( سابعٍ ) من فصول الباب الثّالث من القسم الرّابع من كتاب « الشّفاء » « وهذا كلّه ( أي ما ذكره من إلزام الكفر أو الجُرم الموجببِ للعقوبة لمن جاء في حقّهم بما ينافي ما يجب لهم ) فيمن تكلّم فيهم ( أي الأنبياء أو الملائكة ) بما قلناه على جملة الملائكة والنّبيئين ( أي على مجموعهم لا على جميعهم قاله الخفاجي يريد بالجميع كلّ فرد فرد ) مِمّن حقّقنا كونَه منهم ممّن نصّ الله عليه في كتابه أو حقّقنا عِلمه بالخبر المتواتر والإجماع القاطع والخبرِ المشتهر المتّفق عليه ( الواو في هذا التّقسيم بمعنى أو ) . فأمّا من لم يثبت الإخبار بتعيينه ولا وقَع الإجماع على كونه من الأنبياء كالخِضِر ، ولقمانَ ، وذي القرنين ، ومريم ، وآسية ( امرأة فرعون ) وخالدٍ بن سنان المذكورِ أنّه نبيء أهل الرسّ ، فليس الحكم في سابّهم والكافر بهم كالحكم فيما قدّمناه » اه .
فإذا علمت هذا علمت أنّ ما وقع في أبيات ثلاثةٍ نظمها البعض ، ( ذكرها الشّيخ إبراهيم البيجوري في مبحث الإيمان من شرحه على « جوهرة التَّوحيد » :
حَتم على كلّ ذي التكليف معرفة *** بأنبياءٍ على التفصيل قد علموا
في « تلك حُجّتنا »{[230]} منهم ثمانية *** من بعد عَشر ويبقَى سبعة وهمُ
إدريس . هود . شعيب ، صالح وكذا *** ذو الكِفّل ، آدم ، بالمختار قد ختموا
لا يستقيم إلاّ بتكلّف ، لأنّ كون معرفة ذلك حتماً يقتضي ظاهره الاصطلاحيّ أنّه واجب ، وهذا لا قائل به فإنْ أراد بالحتم الأمرَ الّذي لا ينبغي إهماله كان مُتأكّداً لقوله : على كلّ ذي التّكليف .
فلو عوّضه بكلّ ذي التّعليم . ولعلّه أراد بالحتم أنّه يتحتّم على من علم ذلك عدمُ إنكار كوننِ هؤلاء أنبياءَ بالتّعيين ، ولكن شاء بين وجوب معرفة شيء وبين منع إنكاره بعد أن يُعرف .
فأمّا رسالة هود وصالح وشعيب فقد تكرّر ذكرها في آيات كثيرة .
وأمّا معرفة نبوءة ذي الكفل ففيها نظر إذ لم يصرّح في سورة الأنبياء بأكثر من كونه من الصّابرين والصّالحين . واختلف المفسّرون في عدّه من الأنبياء ، ونسب إلى الجمهور القول بأنّه نبيء . وعن أبي موسى الأشعري ومجاهد : أنّ ذا الكفل لم يكن نبيئاً . وسيأتي ذكر ذلك في سورة الأنبياء .
وأمّا آدم فإنّه نبيء منذ كونه في الجنّة فقد كلّمه الله غيرَ مرّة . وقال { ثمّ اجتباه ربّه فتاب عليه وهدى } [ طه : 122 ] فهو قد أهبط إلى الأرض مشرّفاً بصفة النّبوءة . وقصّة ابني آدم في سورة المائدة دالّة على أنّ آدم بلّغ لأبنائه شَرعاً لقوله تعالى فيها { إذ قرّبا قرباناً فتُقبّل من أحدهما ولم يُتقبّل من الآخر قال لأقتلنّك قال إنّما يتقبّل الله من المتّقين لئن بسطتّ إليّ يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إنّي أخاف الله ربّ العالمين إنّي أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النّار وذلك جزاء الظّالمين } ( المائدة : 27 29 .
( فالّذي نعتمده أنّ الّذي ينكر نبوءة معيَّن ممّن سمّي في القرآن في عداد الأنبياء في سورة النّساء وسورة هود وسورة الأنعام وسورة مريم ، وكان المنكر محقّقاً علمُه بالآية الّتي وصف فيها بأنّه نبيء ووقف على دليل صحّة ما أنكره وروجع فصمّم على إنكاره ، إنّ ذلك الإنكار يكون كفراً لأنّه أنكر معلوماً بالضّرورة بعد التّنبيه عليه لئلاّ يعتذر بجهلٍ أو تأويلٍ مقبول .
واعلَمْ أنّي تطلّبت كشف القناع عن وجه الاقتصار على تسمية هؤلاء الأنبياء من بين سائر الأنبياء من ذرّيّة إبراهيم أو ذرّيّة نوح ، ( على الوجهين في معاد ضمير { ذرّيّته } ) . فلم يتّضح لي وتطلّبت وجه ترتيب أسمائهم هذا التّرتيبَ ، وموالاة بعض هذه الأسماء لبعض في العطف فلم يَبْدُ لي ، وغالب ظنّي أنّ من هذه الوجوه كون هؤلاء معروفون لأهل الكتاب وللمشركين الّذين يقتبسون معرفة الأنبياء من أهل الكتاب ، وأنّ المناسبة في ترتيبهم لا تخلو من أن تكون ناشئة عن الابتداء بذكر أنّ إسحاق ويعقوب موهبة لإبراهيم وهما أب وابنه ، فنشأ الانتقال من واحد إلى آخر بمناسبة للانتقال ، وأنّ توزيع أسمائهم على فواصل ثلاث لا يخلو عن مناسبة تجمع بين أصحاب تلك الأسماء في الفاصلة الشّاملة لأسمائهم . ويجوز أنّ خفّة أسماء هؤلاء في تعريبها إلى العربيّة حُروفاً ووزناً لها أثر في إيثارها بالذّكر دون غيرها من الأسماء نحو ( شَمعون وشمويل وحزقيال ونحميا ) ، وأنّ المعدودين في هذه الآيات الثّلاث توزّعوا الفضائل إذ منهم الرّسل والأنبياء والملوك وأهل الأخلاق الجليلة العزيزة من الصّبر وجهاد النّفس والجهاد في سبيل الله والمصابرة لتبليغ التّوحيد والشّريعة ومكارم الأخلاق ، كما أشار إلى ذلك قوله تعالى في آخر الآيات { أولئك الّذين آتيناهم الكتاب والحكم والنّبوءة } [ الأعراف : 89 ] ومن بينهم أصلاً الأمّتين العربيّة والإسرائيليّة .
فلمّا ذكر إسحاق ويعقوب أردف ذكرُهما بذكر نبيئيْن من ذرّيّة إسحاق ويعقوب ، وهما أب وابنه من الأنبياء هما داوود وسليمان مبتدءاً بهما على بقيّة ذرّيّة إسحاق ويعقوب ، لأنّهما نالا مَجْدَين عظيمين مجدِ الآخرة بِالنّبوءة ومجد الدنيا بالملك . ثمّ أردف بذكر نبيئين تماثلاً في أنّ الضرّ أصاب كليهما وأنّ انفراج الكرب عنهما بصبرهما . وهما أيّوب ويوسف . ثمّ بذكر رسولين أخوين هما موسى وهارون ، وقد أصاب موسى مثلُ ما أصاب يوسفَ من الكيد له لقتله ومن نجاته من ذلك وكفالته في بيت المُلك ، فهؤلاء الستّة شملتهم الفاصلة الأولى المنتهية بقوله تعالى : { وكذلك نجزي المحسنين } .
ثمّ بذكر نبيئين أب وابنه وهما زكرياء ويحيى . فناسبَ أن يذكر بعدهما رسولان لا ذرّيّة لهما ، وهما عيسى وإلياس ، وهما متماثلان في أنّهما رفعا إلى السّماء . فأمّا عيسى فرفْعه مذكور في القرآن ، وأمّا إلياس فرفعه مذكور في كتب الإسرائليين ولم يذكره المفسّرون من السلف . وقد قيل : إنّ إلياس هو إدريس وعليه فرفعه مذكور في قوله تعالى : { واذكر في الكتاب إدريس إنّه كان صديقاً نبيئاً ورفعناه مكاناً علياً } في سورة مريم ( 56 ، 57 ) . وابتدىء بعيسى عطفاً على يحيى لأنّهما قريبان ابنا خالة ، ولأنّ عيسى رسول وإلياس نبيء غير رسول . وهؤلاء الأربعة تضمّنتهم الفاصلة الثّانية المنتهية بقوله تعالى : كلّ من الصّالحين } . وعُطف اليسع لأنّه خليفة إلياس وتلميذه ، وأدمج بينه وبين إلياس إسماعيل تنهية بذكر النّبيء الّذي إليه ينتهي نسب العرب من ذرّيّة إبراهيم . وخُتوا بيونس ولوط لأنّ كلاً منهما أرسل إلى أمّة صغيرة . وهؤلاء الأربعة تضمّنتهم الفاصلة الثّالثة المنتهية بقوله : { وكلاً فضّلنا على العالمين } .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وهدينا أيضا من ذرّية نوح إسماعيل، وهو إسماعيل بن إبراهيم، واليسع، ويُونُسَ هو يونس بن متى، ولُوطا "وكلاّ فَضّلْنا "من ذرية نوح ونوحا؛ لهم بيّنا الحقّ ووفقناهم له. وفضلنا جميعهم "عَلى العَالَمِينَ": على عالم أزمانهم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{وكلا فضلنا على العالمين} وهذا، والله أعلم، ليس على تخصيص كل فريق بما ذكر من الذكر، ولكن على الجمع أنهم محسنون صالحون مفضلون على العالمين. ثم يحتمل التفضيل لهم بالنبوة أنهم فضلوا على العالمين بالنبوة... ثم يحتمل أنه سماهم محسنين باختيارهم الحال التي كانوا أهلا للرسالة والنبوة. فإن كان هذا فهم الرسل خاصة. ويحتمل [قوله تعالى: {المحسنين} [الآية: 84] محسنين] باختيارهم الهداية وإصابة الحق. فإن كان هذا فهو مما يشترك الأنبياء وأهل الإسلام فيه.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
..و (كلّ) يقتضي استغراق ما أضيف إليه. وحكم الاستغراق أن يثبت الحكم لكلّ فرد فرد لا للمجموع. والمراد تفضيل كلّ واحد منهم على العالمين من أهل عصره عدا من كان أفضلَ منه أو مساوياً له، فاللاّم في {العالمين} للاستغراق العرفي، فقد كان لوط في عصر إبراهيم وإبراهيم أفضلُ منه. وكان من غيرهما من كانوا في عصر واحد ولا يعرف فضل أحدهم على الآخر. وقال عبد الجبّار: يمكن أن يقال: المراد وكلّ من الأنبياء يُفضّلون على كلّ مَن سواهم من العالمين. ثمّ الكلام بعد ذلك في أنّ أي الأنبياء أفضل من الآخر كلام في غرض آخر لا تعلّق له بالأوّل اه. ولا يستقيم لأنّ مقتضى حكم الاستغراق الحكم على كلّ فردٍ فردٍ. وتتعلّق بهذه الآية مسألة مهمّة من مسائِل أصول الدّين. وهي ثبوت نبوءة الّذين جرى ذكر أسمائهم فيها، وما يترتّب على ثبوت ذلك من أحكام في الإيمان وحقّ النّبوءة. وقد أعرض عن ذكرها المفسّرون وكان ينبغي التّعرّض لها لأنَّها تتفرّع إلى مسائل تهمّ طالب العلوم الإسلاميّة مَعرفتُها، وأحقّ مظِنّة بذكرها هو هذه الآية وما هو بمعنى بعضها. فأمّا ثبوت نبوءة الّذين ذُكرت أسماؤهم فيها فلأنّ الله تعالى قال بعد أن عدّ أسماءهم {أولئك الّذين آتيناهم الكِتاب والحُكم والنّبوءة}. فثبوت النّبوءة لهم أمر متقرّر لأنّ اسم إشارة {أولئك} قريب من النصّ في عوده إلى جميع المسمَّيْنَ قبله مع ما يعضّده ويكمّله من النصّ بنبوءة بعضهم في آيات تماثِل هذه الآية، مثل آية سورة النّساء (163) {إنَّا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح} الآيات، ومثل الآيات من سورة مريم (41) واذكر في الكتاب إبراهيم الآيات.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
المجموعة الثالثة: هي ذرية إبراهيم من العرب وهم إسماعيل باني الكعبة مع أبيه وابنه البكر، والذبيح الذي فداه الله تعالى بذبح عظيم، وقد قال: يا أبت افعل ما تؤمر، ستجدني إن شاء الله مع الصابرين واليسع ويونس، ولوط وكان ابن أخيه فكان من ذريته بهذا الاعتبار.
وكان من صلب إسماعيل محمد صلى الله عليه وسلم وبهذا كان لهم فضل فوق كل فضل سبقه، لأنه اجتمع في محمد صلى الله عليه وسلم والصبر والاقدام في موطن الإقدام والروحانية بما لا يقل عن روحانية عيسى، ولذلك قال تعالى: (وكلا فضلنا على العالمين) أي أن كل واحد من هؤلاء كان له فضل على العالمين بفضل الله تعالى والله ذو فضل عظيم.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
.. {وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً}، وقد ابتلاهم الله بظروف صعبةٍ، ومشاكل معقدة في حياتهم، وواجهوا ذلك كله بالإيمان والصبر والمسؤولية العالية، حتى استطاعوا أن يقدّموا من أنفسهم النموذج الأمثل للإنسان المؤمن الصابر أمام المصاعب والتحديات، والواثق بالله في ما ينتظره من فرج وانتصار. وقد قدّم الله سبحانه لكل نموذج من هؤلاء وصفاً خاصاً يتناسب مع طبيعة الدور الذي أوكله إليه.. فمع النموذج الأوّل جاءت فقرة: {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} في ما تفرضه حركة السلطة العادلة والقوّة المسؤولة من إحسانٍ للناس في تقديم العدالة لهم، وتقوية ضعفهم. وفي النموذج الثاني، جاءت فقرة: {كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ} في ما توحي به كلمة الصلاح من معانٍ روحيّةٍ تلتقي بالصفاء والوداعة والربّانية في القول وفي العمل، والزهد في مواجهة شهوات الدنيا.. وفي النموذج الثالث: {وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ} لما يحتويه البلاء من اختبارٍ للطاقة الروحية، وفي ما ينتهي إليه من انتصارٍ على تحدياته ومشاكله، وفي ما ينطلق معه من مواقف وتطلعات، ما يعطي معنى الفضل على الجوّ الذي يحيط بهم، والتفضيل على الناس الذين يعيشون معهم..