ثم أرشدهم - سبحانه - إلى الطريق القويم لو كانوا يعقلون فقال : { فَذَلِكُمُ الله رَبُّكُمُ الحق .
أى : فذلكم الذي فعل ما فعل من رزقكم ومن تدبير أمركم ، هو الله المربي لكم بنعمه ، وهو الذي لا تحق العبودية والألوهية إلا له وحده .
إذا كان الأمر كذلك { فَمَاذَا بَعْدَ الحق إِلاَّ الضلال } أي لا يوجد غير الحق شيء يتبع سوى الضلال ، فمن ترك الحق وهو عبادة الله وحده ، فقد وقع في الباطل والضلال وهو عبادة غيره من الآلهة الأخرى .
قال القرطبي : " ثبت عن عائشة - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قام إلى الصلاة من جوف الليل قال : " اللهم لك الحمد " الحديث ، وفى ه : أنت الحق ، ووعدك الحق ، وقولك الحق ، ولقاؤك الحق ، والجنة حق والنار حق ، والنبيون حق ، ومحمد حق . . . " .
فقوله : أنت الحق ، أي الواجب الوجود ، وأصله من حق الشيء إذا ثبت ووجب - وهذا الوصف لله - تعالى - بالحقيقة ، إذ وجوده بنفسه لم يسبقه عدم ولا يلحقه عدم ، وما عداه مما يقال عليه هذا الاسم مسبوق بعدم ، ويجوز عليه لحاق العدم ، ووجوده من موجده لا من نفسه .
ومقابلة الحق بالضلال عرف لغة وشرعاً كما في هذه الآية . . والضلال حقيقته الذهاب عن الحق مأخذو من ضلال الطريق ، وهو العدول عن سمته ، يقال : " ضل الطريق وأضل الشيء إذا أضاعه . . "
وقوله : { فأنى تُصْرَفُونَ } أى : فكيف تصرفون وتتحولون عن الحق إلى الضلال ، بعد اعترافكم وإقراركم بأن خالقكم ورازقكم ومدبر أمركم هو الله - تعالى - وحده .
فأني هنا بمعنى كيف ، والاستفهام لإِنكار واقعهم المخزي واستبعاده والتعجب منه .
ومن الأحكام التي تؤخذ من هذه الآية الكريمة : أن الحق والباطل ، والهدى والضلال ، نقيضان لا يجتمعان ، لأن النقيضين يمتنع أن يكونا حقين وأن يكونا باطلين في وقت واحد متى ثبت أن أحدهما هو الحق ، وجب أن يكون الآخر هو الباطل .
وقوله : { فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ } أي فهذا الذي اعترفتم بأنه فاعل ذلك كله هو ربكم وإلهكم الحق الذي يستحق أن يفرد بالعبادة ، { فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلا الضَّلالُ } أي : فكل معبود سواه باطل ، لا إله إلا هو ، واحد{[14219]} لا شريك له .
{ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ } {[14220]} أي : فكيف تصرفون{[14221]} عن عبادته إلى عبادة ما سواه ، وأنتم تعلمون أنه الرب الذي خلق كل شيء ، والمتصرف في كل شيء ؟
وقوله تعالى { فذلكم الله ربكم } الآية ، يقول : فهذا الذي هذه صفاته { ربكم الحق } أي المستوجب للعبادة والألوهية ، وإذا كان ذلك فتشريك غيره ضلال وغير حق ، وعبارة القرآن في سوق هذه المعاني تفوت كل تفسير براعة وإيجازاً وإيضاحاً ، وحكمت هذه الآية بأنه ليس بين الحق والضلال منزلة ثالثة في هذه المسألة التي هي توحيد الله وكذلك هو الأمر في نظائرها ، وهي مسائل الأصول التي الحق فيها في طرف واحد ، لأن الكلام فيها إنما هو في تقرير وجود ذات كيف وهي ، وذلك بخلاف مسائل الفروع التي قال الله تعالى فيها { لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً }{[6099]} وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «الحلال بيّن والحرام بيّن وبينهما أمور متشابهات »{[6100]} ، و «{ الحق } في هذه في الطرفين لأن المتعبدين إنما طلبوا بالاجتهاد لا بعين في كل نازلة ويدلك على أن » الحق «في الطرفين اختلاف الشرائع بتحليل وتحريم في شيء واحد ، والكلام في مسائل الفروع إنما هو في أحكام طارئة على وجود ذات متقررة لا يختلف فيها وإنما يختلف في الأحكام المتعلقة بالمتشرع{[6101]} ، وقوله : { فأنى تصرفون } تقرير{[6102]} كما قال { فأين تذهبون }{[6103]} .
الفاء للتفريع على الإنكار الذي في قوله : { أفلا تتقون } [ يونس : 31 ] ، فالمفرع من جملة المقول . واسم الإشارة عائد إلى اسم الجلالة للتنبيه على أن المشار إليه جدير بالحكم الذي سيذكر بعد اسم الإشارة مِن أجْل الأوصاف المتقدمة على اسم الإشارة وهي كونه الرازق ، الواهب الإدراك ، الخالق ، المدبر ، لأن اسم الإشارة قد جمعها . وأومأ إلى أن الحكم الذي يأتي بعده معلل بمجموعها . واسم الجلالة بيان لاسم الإشارة لزيادة الإيضاح تعريضاً بقوة خطئهم وضلالهم في الإلهية . و { ربكم } خبر . و { الحق } صفة له . وتقدم الوصف بالحق آنفاً في الآية مثل هذه .
والفاء في قوله : { فماذا بعد الحق إلا الضلال } تفريع للاستفهام الإنكاري على الاستنتاج الواقع بعد الدليل ، فهو تفريع على تفريع وتقريع بعد تقريع .
و { ماذا } مركَّبٌ من ( ما ) الاستفهامية و ( ذا ) الذي هو اسم إشارة . وهو يقع بعد ( ما ) الاستفهامية كثيراً . وأحسن الوجوه أنه بعد الاستفهام مزيد لِمجرد التأكيد . ويعبر عن زيادته بأنه ملغى تجنباً من إلزام أن يكون الاسم مزيداً كما هنا . وقد يفيد معنى الموصولية كما تقدم في قوله تعالى : { ماذا أراد الله بهذا مثلاً } في سورة [ البقرة : 26 ] . وانظر ما يأتي عند قوله : { ماذا يستعجل منه المجرمون } في هذه [ السورة : 50 ] .
والاستفهام هنا إنكاري في معنى النفي ، ولذلك وقع بعده الاستثناء في قوله : { إلا الضلال } .
و { بعْدَ } هنا مستعملة في معنى ( غير ) باعتبار أن المغاير يحصل إثر مغايره وعند انتفائه . فالمعنى : ما الذي يكون إثر انتفاء الحق .
ولما كان الاستفهام ليس على حقيقته لأنه لا تردد في المستفهَم عنه تعيّن أنه إنكار وإبطال فلذا وقع الاستثناء منه بقوله : { إلا الضلال } . فالمعنى لا يكون إثر انتفاء الحق إلا الضلال إذ لا واسطة بينهما . فلما كان الله هو الرب الحق تعين أن غيره مما نسبت إليه الإلهية باطل . وعبر عن الباطل بالضلال لأن الضلال أشنع أنواع الباطل .
والفاء في { فأنَّى تصرفون } للتفريع أيضاً ، أي لتفريع التصريح بالتوبيخ على الإنكار والإبطال .
و { أنَّى } استفهام عن المكان ، أي إلى مكان تَصرفكم عقولكم . وهو مكان اعتباري ، أي أنكم في ضلال وعماية كمن ضل عن الطّريق ولا يجد إلا من ينعت له طريقاً غير موصلة فهو يُصرف من ضلال إلى ضلال . قال ابن عطية : وعبارة القرآن في سوق هذه المعاني تفوق كل تفْسير براعة وإيجازاً ووضوحاً .
وقد اشتملت هذه الآيات على تسع فاءات من قوله : { فسيقولون الله } : الأولى جوابية ، والثانية فصيحة ، والبواقي تفريعية .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.