ثم حكى - سبحانه - ما قاله موسى عليه السلام - بعد أن سمع من فرعون تهديداته له ، وتطاوله عليه ، فقال - تعالى - : { وَقَالَ موسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لاَّ يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الحساب } .
وقوله { عُذْتُ } بمعنى استجرت ولجأت . يقال : عاذ فلان بفلان واستعاذ به ، إذا لجأ إليه . واستجار به .
أى : وقال موسى - عليه السلام - لقومه على سبيل التثبيت لهم على الحق يا قوم . إنى استجرت وتحصنت بربى وربكم من شر كل مستكبر عن الإِيمان بالحق ، كافر بيوم الحساب وما فيه من ثواب وعقاب .
وفى هذا القول الذى قاله موسى لقومه : يتجلى صدق إيمانه ، وقوة يقينه ووثوقه برعاية الله - تعالى - له ، كما يتجلى فيه حرصه على نصحه لقومه بالثبات على الحق ، لأن الله - تعالى - الذى هو ربه وربهم ، كفيل برعايته ورعايتهم وبانجائه وبإنجائهم من فرعون وملئه ، كما يتجلى فيه أن الاستكبار عن اتباع الحق ، والتكذيب بالبعث ، على رأس الأسباب التى تعين على قسوة القلب ، وفساد النفس .
قال صاحب الكشاف : وقوله : { وَرَبِّكُمْ } فيه بعث لهم على أن يقتدوا به ، فيعوذوا بالله عياذه ، ويعتصموا بالتوكل عليه اعتصامه ، وقال : { مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ } لتشمل استعاذته من فرعون وغيره من الجبابرة ، وليكون على طريقة التعريض ، فيكون أبلغ . وأراد بالتكبر : الاستكبار عن الإِذعان للحق ، وهو أقبح استكبار وأدله على دناءة صاحبه ، ومهانة نفسه ، وعلى فرط ظلمه وعسفه .
وقال : { لاَّ يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الحساب } لأنه إذا اجتمع فى الرجل التجبر والتكذيب بالجزاء وقلة المبالاة بالعاقبة ، فقد استكمل أسباب القسوة والجراءة على الله وعباده ، ولم يترك عظيمة إلا ارتكبها . .
فأما موسى - عليه السلام - فالتجأ إلى الركن الركين والحصن الحصين ، ولاذ بالجناب الذي يحمي اللائذين ، ويجير المستجيرين :
( وقال موسى : إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب ) . .
قالها . واطمأن . وسلم أمره إلى المستعلي على كل متكبر ، القاهر لكل متجبر ، القادر على حماية العائذين به من المستكبرين . وأشار إلى وحدانية الله ربه وربهم لم ينسها أو يتركها أمام التهديد والوعيد . كما أشار إلى عدم الإيمان بيوم الحساب . فما يتكبر متكبر وهو يؤمن بيوم الحساب ، وهو يتصور موقفه يومئذ حاسراً خاشعاً خاضعاً ذليلاً ، مجرداً من كل قوة ، ما له من حميم ولا شفيع يطاع .
وقال موسى : { إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ } أي : لما بلغه قول فرعون : { ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى } قال موسى : استجرتُ بالله وعُذْتُ به من شره وشر أمثاله ؛ ولهذا قال : { إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ } أيها المخاطبون ، { مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ } أي : عن الحق ، مجرم ، { لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ } ؛
ولهذا جاء في الحديث عن أبي موسى ، رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا خاف قوما قال : " اللهم ، إنا نعوذ بك من شرورهم ، وندرأ بك في نحورهم " {[25489]} .
{ وقال موسى } أي لقومه لما سمع بكلامه . { إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب } صدر الكلام بأن تأكيدا وإشعارا على أن السبب المؤكد في دفع الشر هو العياذ بالله ، وخص اسم الرب لأن المطلوب هو الحفظ والتربية ، وإضافته إليه وإليهم حثا لهم على موافقته لما في تظاهر الأرواح من استجلاب الإجابة ، ولم يسم فرعون وذكر وصفا يعمه وغيره لتعميم الاستعاذة ورعاية الحق والدلالة على الحامل له على القول . وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي { عذت } فيه وفي سورة " الدخان " بالإدغام وعن نافع مثله .
هذا حكاية كلام صدر من موسى في غير حضرة فرعون لا محالة ، لأن موسى لم يكن ممن يضمه ملأ استشارة فرعون حين قال لقومه : { ذروني أقتل موسى } [ غافر : 26 ] ولكن موسى لما بلغه ما قاله فرعون في ملائه قال موسى في قومه : { إنِّي عُذْتُ بِرَبِّي ورَبِّكُم } ، ولذلك حكِيَ فعل قوله معطوفاً بالواو لأن ذلك القول لم يقع في محاورة مع مقال فرعون بخلاف الأقوال المحكية في سورة [ الشعراء : 18 31 ] من قوله : { قال ألم نربك فينا وليداً } إلى قوله : { قال فأْتِ به إن كنت من الصادقين } .
وقوله : { عُذتُ بِرَبِّي وَرَبِّكم مِن كُلِّ مُتَكَبِر } خطاب لقومه من بني إسرائيل تطميناً لهم وتسكيناً لإِشفاقهم عليه من بطش فرعون . والمعنى : إني أعددت العدة لدفع بطش فرعون العوذَ بالله من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب وفي مقدمة هؤلاء المتكبرين فرعون .
ومعنى ذلك : أن موسى علم أنه سيجد مناوين متكبرين يكرهون ما أرسله الله به إليهم ، فدعا ربه وعلم أن الله ضمن له الحفظ وكفاه ضير كل معاند ، وذلك ما حكي في سورة [ طه : 45 ، 46 ] : { قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى قال لا تخافا إنني معكما أسمَع وأرى } فأخبر موسى قومه بأن ربه حافظٌ له ليثقوا بالله كما كان مقام النبي لاحينَ كان في أول البعثة تحرسه أصحابه في الليل فلما نزل قوله تعالى : { فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين إنا كفيناك المستهزئين } [ الحجر : 94 ، 95 ] الآية أمر أصحابه بأن يتخلوا عن حراسته .
وتأكيد الخبر بحرف ( إنَّ ) متوجه إلى لازم الخبر وهو أن الله ضمن له السلامة وأكد ذلك لتنزيل بعض قومه أو جُلهم منزلة من يتردد في ذلك لِما رأى من إشفاقهم عليه .
والعَوذ : الالتجاء إلى المحل الذي يستعصم به العائذ فيدفع عنه مَن يروم ضره ، يقال : عاذ بالجبل ، وعاذ بالجيش ، وقال تعالى : { فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم } [ النحل : 98 ] .
وعبر عن الجلالة بصفة الرب مضافاً إلى ضمير المتكلم لأن في صفة الرب إيماء إلى توجيه العوذ به لأن العبد يعوذ بمولاه . وزيادة وصفه برب المخاطبين للإِيماء إلى أن عليهم أن لا يجزعوا من مناواة فرعون لهم وأن عليهم أن يعوذوا بالله من كل ما يفظعهم .
وجُعلت صفة { لاَ يُؤمِنُ بِيَوْمِ الحِسَابِ } مغنية عن صفة الكفر أو الإِشراك لأنها تتضمن الإشراك وزيادة ، لأنه إذا اجتمع في المرء التجبر والتكذيب بالجزاء قَلَّت مبالاته بعواقب أعماله فكملت فيه أسباب القسوة والجرأة على الناس .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.