ثم ذكرهم - سبحانه - بنعمة إنجائهم من العذاب والتنكيل ، ليبتليهم أيشكرون أم يكفرون ، فقال تعالى : { وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِّنْ آلِ فِرْعَونَ يَسُومُونَكُمْ سواء العذاب يُقَتِّلُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ وَفِي ذلكم بلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ } .
" إذ " بمعنى وقت ، وهى مفعول به لفعل ملاحظ في الكلام وهو اذكروا أى : اذكروا وقت أن أنجيناكم من آل فرعون . والمراد من التذكير بالوقت تذكيرهم بما وقع فيه من أحداث .
وآل الرجل : أهله وخاصته وأتباعه . ويطلق غالباً على أولى الشأن والخطر من الناس ، فلا يقال آل الحجام أو الاسكاف .
و { يَسُومُونَكُمْ سواء العذاب } يبغون لكم أشد العذاب وأفضعه من السوم وهو مطلق الذهاب ، أو الذهاب في ابتغاء الشىء . يقال : سامت الابل فهى سائمة ، أى ذهبت إلى المرعى . وسام السلعة ، إذا طلبها وابتغاها .
والسوء - بالضم - كل ما يحزن الإنسان ويغمه من الأمور الدنيوية أو الأخروية . ويستحيون : أى يستبقون . يقال : استحياه أى : استبقاه ، وأصله : طلب له الحياة والبقاء .
والبلاء : الامتحان والاختبار ويكون بالخير والشر .
والمعنى : واذكروا يا بنى إسرائيل لتعتبروا وتتعظوا وتشكروا الله على نعمه وقت أن أنجيناكم من آل فرعون الذين كانوا يعذبونكم أشق العذاب وأصعبه ، حيث كانوا يزهقون أرواح ذكوركم ، ويستبقون نفوس نسائكم ليستخدموهن ويستذلوهن .
وفى ذلكم العذاب وفى النجاة منه امتحان لكم لتشكروا الله على نعمه ، ولتقعلوا عن السيئات التي تؤدى بكم إلى الاذلال في الدنيا ، والعذاب في الأخرى .
وجعلت النجاة هنا من آل فرعون ولم تجعل منه ، مع أنه هو الآمر بتعذيب بنى إسرائيل ، للتنبيه على أن حاشيته وبطانته كانت عونا له على إذاقتهم سوء العذاب ، وفى إنزال ألوان الأذلال بهم .
وجعلت الآية الكريمة استحياء النساء عقوبة لبنى إسرائيل - مع أنه في ظاهرة نعمة لهم - لأن هذا الابقاء على النساء كان المقصود من الاعتداء على أعراضهن ، واستعمالهن في شتى أنواع الخدمة ، وإذلالهن بالاسترقاق ، فبقاؤهن كذلك بقاء ذليل ؛ وعذاب أليم ، تأباه النفوس الكريمة ، والطباع الحرة الأبية .
قال الامام الرازى ما ملخصه : في قتل الذكور دون الإناث مضرة م وجوه : أحدها : أن ذبح الأبناء يقتضى فناء الرجال ، وذلك يقضى انقطاع النسل ، لأن النساء إذا انفردن فلا تأثير لهن البتة في ذلك ، وهذا يقضى في نهاية الأمر إلى هلاك الرجال والنساء جميعا .
ثانيها : أن هلاك الرجال يقتضى فساد مصالح النساء في أمر المعيشة .
فإن المرأة لتتمنى الموت إذا انقطع عنها الجرال . لما قد تقع فيه من نكد العيش بالانفراد .
ثالثها : إن قتل الولد عقب الحمل الطويل ، وتحمل الكد ، والرجاء القوى في الانتفاع به من أعظم العذاب . فنعمة الله في تخليصهم من هذه المحنة كبيرة .
رابعاً : أن بقاء النساء بدون الذكران من أقاربهن ، يؤدى إلى صيرورتهن مستفرشات للأعداء . وذلك نهاية الذل والهوان .
وقد رجح كثير من المفسدين أن المراد بالأبناء هنا الأطفال لا البالغين ، لأن اللفظ من حيث وضعه يفيد ذلك ، ولأن قتل الرجال لا يفيدهم حيث أنهم كانوا يستعملونهم في الأعمال الشاقة والحقيرة ، ولأنه لو كان المقصود بالذبح الرجال لما قامت أم موسى بإلقائه في اليم وهو طفل صغير لتنجيه من الذبح .
ويرى بعض المفسرين أن المراد بالأبناء الرجال ، لا الأطفال ، لأن لفظ الأبناء هنا جعل في مقابلة النساء ، والنساء هن البالغات .
والذى نرجحه هو القول الأول لما ذكرنا ، ولأنه أتم في إظهار نعمة الانجاء ، حيث كان آل فرعون يقتلون الصغار قطعاً للنسل ، ويسترقون الأمهات استعباداً لهن ، ويبقون الرجال للخدمة حتى ينقرضوا على سبيل التدرج ، وبقاء الرجال على هذه الحالة أشد عليهم من الموت .
وبهذا تكون الآيات الكريمة قد ردت على بنى إسرائيل فيما طلبوا أبلغ رد وأحكمه ، ووصفتهم بما هم أهله من سوء تدبير ، وسفاهة تفكير . فقد بدأت بإثبات جهلهم بربهم وبأنفسهم ، حيث طلبوا من نبيهم أن يجعل لهم إلهاً كما لغيرهم آلهة ، ثم ثنت بإظهار فساد ما طلبوه في ذاته ، لأن مصيره إلى الزوال والهلاك ، وما كان كذلك لا يصلح أن يكون إلهاً ، ثم بينت بعد ذلك بأن العبادة لغير الله لا تجوز بأى حال ، لأنه هو وحده صاحب الخلق والأمر ، ثم ذكرتهم في ختامها بوجوه النعم التي أسبغها الله عليهم ، لتشعرهم بأن ما طلبوه من نبيهم ، هو من قبيل مقابلة الاحسان بالجحود والنكران ، ولتحملهم على أن يتدقبروا أمرهم ، ويراجعوا أنفسهم ، ويتوبوا إلى خالقهم توبة صادقة نصوحا .
وعلى طريقة القرآن الكريم في وصل ما يحكيه عن أولياء الله بما يحكيه عن الله - سبحانه - يستطرد السياق بخطاب من الله تعالى موصول بكلام موسى - عليه السلام - موجه كذلك لقومه :
( وإذ أنجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب ، يقتلون أبناءكم ويستحيون نساءكم . وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم ) . .
وفي مثل هذا الوصل في القرآن الكريم ، بين كلام الله - سبحانه - وما يحكيه من كلام أوليائه ، تكريم أي تكريم لهؤلاء الأولياء لا ريب فيه !
وهذه المنة التي يمتنها الله على بني إسرائيل - في هذا الموضع - كانت حاضرة في أذهانهم وأعصابهم . ولقد كانت هذه المنة وحدها كفيلة بأن تذكر وتشكر . . والله سبحانه وتعالى يوجه قلوبهم لما في ذلك الابتلاء من عبرة . . ابتلاء العذاب وابتلاء النجاة . الابتلاء بالشدة والابتلاء بالرخاء . .
( وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم ) . .
فما كان شيء من ذلك كله جزافا بلا تقدير . ولكنه الابتلاء للموعظة وللتذكير . وللتمحيص والتدريب . وللإعذار قبل الأخذ الشديد . إن لم يفلح الابتلاء في استصلاح القلوب !
{ وإذ أنجيناكم من آل فرعون } واذكروا صنيعه معكم في هذا الوقت . وقرأ ابن عامر " أنجاكم " . { يسومونكم سوء العذاب } استئناف لبيان ما أنجاهم منه ، أو حال من المخاطبين ، أو من آل فرعون أو منهما . { يقتّلون أبناءكم ويستحيُون نساءكم } بدل منه مبين . { وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم } وفي الإنجاء أو العذاب نعمة أو محنة عظيمة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.