وقوله { عَالِمُ الغيب والشهادة الكبير المتعال } تأكيد لعموم عليه - سبحانه - ودقته .
والغيب : مصدر غاب يغيب ، وكثيرا ما يستعمل بمعنى الغائب ، وهو : ما لا تدركه الحواس ولا يعلم ببداهة العقل .
والشهادة : مصدر شهد يشهد ، وهى هنا بمعنى الأشياء المشهودة .
والمتعال : المستعلى على كل شئ في ذاته وفى صفاته وفى أفعاله - سبحانه - .
أى : أنه - سبحانه - هو وحده الذي يعلم أحوال الأشياء الغائبة عن الحواس كما يعلم أحوال المشاهدة منها ، وهو العظيم الشأن ، المستعلى على كل شئ .
( عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال ) .
ولفظة ( لكبير ) ولفظة ( المتعال ) كلتاهما تلقي ظلها في الحس . ولكن يصعب تصوير ذلك الظل بألفاظ أخرى . إنه ما من خلق حادث إلا وفيه نقص يصغره . وما يقال عن خلق من خلق الله كبير ، أو أمر من الأمور كبير ، أو عمل من الأعمال كبير ، حتى يتضاءل بمجرد أن يذكر الله . . وكذلك ( المتعال ) . . تراني قلت شيئا ? لا . ولا أي مفسر آخر للقرآن وقف أمام ( الكبير المتعال ) !
وقوله : { عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ } أي : يعلم كل شيء مما يشاهده العباد ومما يغيب عنهم ، ولا يخفى{[15467]} عليه منه شيء . { الكبير } الذي هو أكبر من كل شيء ، { المتعال } أي : على كل شيء ، قد أحاط بكل شيء علما ، وقهر كل شيء ، فخضعت له الرقاب ودان له العباد ، طوعا وكرها .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: والله عالم ما غاب عنكم وعن أبصاركم فلم تَرَوْه وما شاهدتموه، فعاينتم بأبصاركم، لا يخفى عليه شيء، لأنهم خلقه، وتدبيره."الكبير": الذي كلّ شيء دونه، "المتعال": المستعلي على كلّ شيء بقدرته...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
وإنما قال:"عالم الغيب" مع أن الله تعالى لا يغيب عنه شيء، لأنه أراد ما غاب عن إحساس العباد. وقيل إنه أراد أنه يعلم المعدوم والموجود، فالغيب هو المعدوم. وقال الحسن: الغيب: السر، والشهادة العلانية...
و"المتعال": المقتدر بما يستحيل أن يكون أعلى منه في الاقتدار أو مساويا له، فهو أقدر من كل قادر، ولهذا استحالت مساواته في المقدور، لأن من لا يساويه أحد في المقدور فهو أعلى في المقدور، كأنه قال: تعالى مقدوره إلى ما يستحيل أن يكون أعلى منه. وقال الحسن: المتعالي عما يقول المشركون فيه...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{الكبير}: العظيم الشأن الذي كل شيء دونه.
{المتعال}: المستعلي على كل شيء بقدرته، أو الذي كبر عن صفات المخلوقين وتعالى عنها.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
و {الغيب}: ما غاب عن الإدراكات، و {الشهادة}: ما شهود من الأمور، ووضع المصادر موضع الأشياء التي كل واحد منها لا بد أن يتصف بإحدى الحالتين.
وقوله: {الكبير} صفة تعظيم على الإطلاق، و «المتعالي» من العلو.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان هذا غيباً وكان علمه مستلزماً لعلم الشهادة، وكان للتصريح مزية لا تخفى، صرح به على وجه كلي يعم تلك الجزيئات وغيرها فقال: {عالم الغيب} وهو ما غاب عن كل مخلوق {والشهادة} قال الرماني: الغيب: كون الشيء بحيث يخفى عن الحس، والشهادة: كونه بحيث يظهر له.
ولما كان العلم والحكمة لا يتمان إلا بكمال القدرة والعظمة قال: {الكبير} أي الذي يتضاءل عنده كل ما فيه صفات تقتضي الكبر، قال الإمام أبو الحسن الحرالي: والكبر: ظهور التفاوت في ظاهر الأمر وباهر القدر الذي لا يحتاج إلى فكر، ولذلك كان فطرة للخلق أن الله أكبر، ولما كان لا ظاهر قدر للخلق لما عليهم من بادي الضرورات والحاجات المعلنة بصغير القدر، ومن حاول منهم أن يكبر بسطوة أو تسلط وفساد زاد صغار قدره بما اكتسب في أعين أرباب البصائر في الدنيا، ويبدو ذلك منه لعيون جميع الخلق في الأخرى "يحشر المتكبرون يوم القيامة كأمثال الذر يطؤهم الناس بأقدامهم "فلذلك اختصاص معنى أنه لا كبير إلا الله -انتهى.
{المتعال} أي الذي لا يدنو- من أوج علوه في ذات أو صفة أو فعل -عالٍ، وأخرجه مخرج التفاعل ليكون أدل على المعنى وأبلغ فيه؛ وقال أبو الحسن الحرالي رحمه الله: والتعالي: فوت التناول والمنال بحكم أو حجة، وأشعر التفاعل بما يجري من توهم المحتجين في أمره بأوهام حجج داحضة {حجتهم داحضة عند ربهم} [الشورى: 16] فهو تعالى يأذن في الاحتجاج والجدال ثم يتعالى بما له من الحجة البالغة {قل فلله الحجة البالغة} [الأنعام: 149] فهو المتعالي علماً وحكماً وحجة، وحقيقة المتعالي الذي لا يتعالى إلا هو- انتهى. والحاصل أنه لما وصف نفسه مما تقدم، أشار إلى أن ذلك على ما تحتمله العقول وأن الحق في وصفه الكبر المطلق والتعالي المطلق، لأن العقول لا تحتمل أكثر من ذلك.
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
{الكبير} العظيم الشأن الذي كل شيء دونه {المتعال} المستعلي على كل شيء في ذاته وعلمه وسائر صفاته سبحانه، وجوز أن يكون المعنى الكبير الذي يجل عما نعته به الخلق من صفات المخلوقين ويتعالى عنه، فعلى الأول المراد تنزيهه سبحانه في ذاته وصفاته عن مداناة شيء منه؛ وعلى هذا المراد تنزيهه تعالى عما وصفه الكفرة به فهو رد لهم كقوله جل شأنه: {سبحان الله عَمَّا يَصِفُونَ}...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ولفظة (الكبير) ولفظة (المتعال) كلتاهما تلقي ظلها في الحس. ولكن يصعب تصوير ذلك الظل بألفاظ أخرى. إنه ما من خلق حادث إلا وفيه نقص يصغره. وما يقال عن خلق من خلق الله كبير، أو أمر من الأمور كبير، أو عمل من الأعمال كبير، حتى يتضاءل بمجرد أن يذكر الله.. وكذلك (المتعال).. تراني قلت شيئا؟ لا. ولا أي مفسر آخر للقرآن وقف أمام (الكبير المتعال)!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
جملة {عالم الغيب والشهادة} تذييل وفذلكة لتعميم العلم بالخفيات والظواهر وهما قسما الموجودات. وقد تقدم ذكر {الغيب} في صدر سورة البقرة (4). وأما الشهادة} فهي هنا مصدر بمعنى المفعول، أي الأشياء المشهودة، وهي الظاهرة المحسوسة، المرئيات وغيرها من المحسوسات، فالمقصود من {الغيب والشهادة} تعميم الموجودات كقوله: {فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون} [الحاقة: 38 39]. والكبير: مجاز في العظمة، إذ قد شاع استعمال أسماء الكثرة وألفاظ الكبر في العظمة تشبيهاً للمعقول بالمحسوس وشاع ذلك حتى صار كالحقيقة. والمتعالي: المترفع. وصيغت الصفة بصيغة التفاعل للدلالة على أن العلو صفة ذاتية له لا من غيره، أي الرفيع رفعة واجبة له عقلاً. والمراد بالرفعة هنا المجاز عن العزة التامة بحيث لا يستطيع موجود أن يغلبه أو يكرهه، أو المنزه عن النقائص كقوله عزّ وجلّ تعالى {عما يشركون} [النحل: 3]...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
بعد أن ذكر سبحانه وتعالى علمه بما تحمله كل أنثى، وهو من الغيب الذي لا يظهر في حسنا والذي لا يعلم إلا بعد ظهوره لنا، ذكر سبحانه أنه المحيط عمله للحاضر والغائب، ومات يسر به الإنسان وما يجهر، وما يستخفى وما يظهر، فقال تعالت كلماته: {عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال 9}.
هو تأكيد ما تضمنته الآية السابقة من علمه بما في الأرحام منذ وجودها فيها ومكنونها، وأدوارها، وقابلها، وكان التأكيد بذكر عموم علمه للغائب والحاضر، والغيب مصدر غاب، وأطلق على ما يغيب حتى اشتهر، فيه مبالغة في غيبه عن الرؤية والحس، والشهادة من شهد بمعنى حضر، ثم أطلقت على ما هو حاضر محسوس، مبالغة في حضوره والحس به، والمعنى: عالم بما يغيب عن الحس، وما هو محسوس حاضر، وقال (عالم) ولم يقل يعلم؛ للإشارة إلى أسمائه وأنه صفة ملازمة له سبحانه وتعالى وذكر الغيب والشهادة لإثبات أن علمه واحد بالشاهد والغيب على سواء؛ لأنه علم محيط، ولا يفترق فيه شيء عن شيء.
ووصف ذاته العلية بأنه فوق البشر وفوق كل ما هو من شأن البشر، فقال: {الكبير المتعال} الكبير أي العظيم في قدرته وإرادته، وكمال سلطانه وتدبيره وخلقه لكل هذا الوجود بسمائه وأجرامه وكواكبه وسياراته، وأرضه، وكل ما هو مسخر في هذا الوجود {المتعال} أي المتسامي في صفاته، وفي كل ما هو من شأنه فلا يشبه شيئا من خلقه،، ولا يشبهه شيء من خلقه، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، تعالى الله سبحانه عن مشابهته للمواد علوا كبيرا وهو الواحد الأحد الفرد الصمد.