التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَجَنَّـٰتٍ أَلۡفَافًا} (16)

أما الدليل التاسع على قدرته - تعالى - على البعث ، فنراه فى قوله - تعالى - :

{ وَأَنزَلْنَا مِنَ المعصرات مَآءً ثَجَّاجاً . لِّنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً . وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً } .

والمعصرات - بضم الميم وكسر الصاد - السحب التى تحمل المطر ، جمع معصرة - بكسر الصاد - اسم فاعل ، من أعصرت السحابة إذا أوشكت على إنزال الماء لامتلائها به . .

قال ابن كثير : عن ابن عباس : " المعصرات " الرياح . لأنها تستدر المطر من السحاب . . وفى رواية عنه أن المراد بها : السحاب ، وكذا قال عكرمة . . واختاره ابن جرير . .

وقال الفراء : هى السحاب التى تتحلب بالماء ولم تمطر بعد ، كما يقال : امرأة معصر ، إذا حان حيضها ولم تحض بعد .

وعن الحسن وقتادة : المعصرات : يعنى السموات . وهذا قول غريب ، والأظهر أن المراد بها السحاب ، كما قال - تعالى - : { الله الذي يُرْسِلُ الرياح فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السمآء كَيْفَ يَشَآءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الودق يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ . . . } والثجاج : المندفع بقوة وكثرة ، يقال : ثج الماء - كرد - إذا انصب بقوة وكثرة .

ومطر ثجاج ، أى : شديد الانصباب جدا .

وقوله : { أَلْفَافاً } اسم جمع لا واحد له من لفظه ، كالأوزاع للجماعات المتفرقة . وقيل : جمع لفيف ، كأشراف وشريف . أى : وأنزلنا لكم - يا بنى آدم - بقدرتنا ورحمتنا - من السحائب التى أوشكت على الإِمطار ، ماء كثيرا متدفقا بقوة ، لنخرج بهذا الماء حبا تقتاتون به - كالقمح والشعير .

. ونباتا تستعملونه لدوابكم كالتبن والكلأ ، ولنخرج بهذا الماء - أيضا - بساتين قد التفت أغصانها لتقاربها وشدة نمائها .

فهذه تسعة أدلة أقامها - سبحانه - على أن البعث حق ، وهى أدلة مشاهدة محسوسة ، لا يستطيع عاقل إنكار واحد منها . . وما دام الأمر كذلك فكيف ينكرون قدرته على البعث ، مع أنه - تعالى - قد أوجد لهم كل هذه النعم التى منها ما يتعلق بخلقهم ، ومنها ما يتعلق بالأرض والسموات ، ومنها ما يتعلق بنومهم ، وبالليل والنهار ، ومنها ما يتعلق بالشمس ، وبالسحب التى تحمل لهم الماء الذى لا يحاة لهم بدونه .

وبعد إيراد هذه الأدلة المقنعة لكل عاقل ، أكد - سبحانه - ما اختلفوا فيه ، وما تساءلوا عنه ، وبين جانبا من أماراته وعلاماته فقال : { إِنَّ يَوْمَ الفصل كَانَ مِيقَاتاً . يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصور فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً . وَفُتِحَتِ السمآء فَكَانَتْ أَبْوَاباً . وَسُيِّرَتِ الجبال فَكَانَتْ سَرَاباً } .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَجَنَّـٰتٍ أَلۡفَافًا} (16)

يدل على هذا ما بعده : ( وجعلنا سراجا وهاجا ) . . وهو الشمس المضيئة الباعثة للحرارة التي تعيش عليها الأرض وما فيها من الأحياء . والتي تؤثر كذلك في تكوين السحائب بتبخير المياه من المحيط الواسع في الأرض ورفعها إلى طبقات الجو العليا وهي المعصرات : ( وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا ) . . حين تعصر فتخر ويتساقط ما فيها من الماء . ومن يعصرها ? قد تكون هي الرياح . وقد يكون هو التفريغ الكهربائي في طبقات الجو . ومن وراء هذه وتلك يد القدرة التي تودع الكون هذه المؤثرات ! وفي السراج توقد وحرارة وضوء . . وهو ما يتوافر في الشمس . فاختيار كلمة( سراج )دقيق كل الدقة ومختار . .

ومن السراج الوهاج وما يكسبه من أشعة فيها ضوء وحرارة ، ومن المعصرات وما يعتصر منها من ماء ثجاج ، ينصب دفعة بعد دفعة كلما وقع التفريغ الكهربائي مرة بعد مرة ، وهو الثجاج ، من هذا الماء مع هذا الإشعاع يخرج الحب والنبات الذي يؤكل هو ذاته ، والجنات الألفاف الكثيفة الكثيرة الأشجار الملتفة الأغصان . وهذا التناسق في تصميم الكون ، لا يكون إلا ووراءه يد تنسقه ، وحكمة تقدره ، وإرادة تدبره . يدرك هذا بقلبه وحسه كل إنسان حين توجه مشاعره هذا التوجيه ، فإذا ارتقى في العلم والمعرفة تكشفت له من هذا التناسق آفاق ودرجات تذهل العقول وتحير الألباب . وتجعل القول بأن هذا كله مجرد مصادفة قولا تافها لا يستحق المناقشة . كما تجعل التهرب من مواجهة حقيقة القصد والتدبير في هذا الكون ، مجرد تعنت لا يستحق الاحترام !

إن لهذا الكون خالقا ، وإن وراء هذا الكون تدبيرا وتقديرا وتنسيقا . وتوالي هذه الحقائق والمشاهد في هذا النص القرآني على هذا النحو : من جعل الأرض مهادا والجبال أوتادا . وخلق الناس أزواجا . وجعل نومهم سباتا [ بعد الحركة والوعي والنشاط ] مع جعل الليل لباسا للستر والانزواء ، وجعل النهار معاشا للوعي والنشاط . ثم بناء السبع الشداد . وجعل السراج الوهاج .

وإنزال الماء الثجاج من المعصرات . لإنبات الحب والنبات والجنات . . توالي هذه الحقائق والمشاهد على هذا النحو يوحي بالتناسق الدقيق ، ويشي بالتدبير والتقدير ، ويشعر بالخالق الحكيم القدير . ويلمس القلب لمسات موقظة موحية بما وراء هذه الحياة من قصد وغاية . . ومن هنا يلتقي السياق بالنبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون !

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَجَنَّـٰتٍ أَلۡفَافًا} (16)

وقوله : وَجَنّاتٍ ألْفافا يقول : ولنخرج بذلك الغيث جنات وهي البساتين وقال : وجنات ، والمعنى : وثمر جنات ، فترك ذكر الثمر استغناء بدلالة الكلام عليه من ذكره . وقوله : ألْفافا يعني : ملتفة مجتمعة . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وجَنّاتٍ أَلْفافا قال : مجتمعة .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس وَجَنّاتٍ ألْفافا يقول : وجنات التفّ بعضها ببعض .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد وَجَنّاتٍ ألْفافا قال : ملتفة .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَجَنّاتٍ ألْفافا قال : التفّ بعضها إلى بعض .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله وَجَنّاتٍ ألْفافا قال : التفّ بعضها إلى بعض .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان وَجَنّاتٍ ألْفافا قال : ملتفة .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَجَنّاتٍ ألْفافا قال : هي الملتفة ، بعضها فوق بعض .

واختلف أهل العربية في واحد الألفاف ، فكان بعض نحويّي البصرة يقول : واحدها : لَفّ . وقال بعض نحويّي الكوفة : واحدها : لَفّ ولفيف قال : وإن شئت كان الألفاف جمعا ، واحده جمع أيضا ، فتقول : جنة لفّاء ، وجنات لَفّ ، ثم يجمع اللّفّ ألفافا .

وقال آخر منهم : لم نسمع شجرة لفة ، ولكن واحدها لفاء ، وجمعها لفّ ، وجمع لفّ : ألفاف ، فهو جمع الجمع .

والصواب من القول في ذلك أن الألفاف جمع لَفّ أو لفيف ، وذلك أن أهل التأويل مجمعون على أن معناه : ملتفة ، واللّفاء : هي الغليظة ، وليس الالتفاف من الغلظ في شيء ، إلاّ أن يوجه إلى أنه غلظ الالتفاف ، فيكون ذلك حينئذٍ وجها .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَجَنَّـٰتٍ أَلۡفَافًا} (16)

فذكر الله تعالى موضع المنفعتين و { ألفافاً } جمع لُف بضم اللام ، ولف جمع لفاء . والمعنى ملتفات الأغصان والأوراق ، وذلك موجود مع النضرة والري ، وقال جمهور اللغويين { ألفافاً } جمع لِفّ بكسر اللام ، واللف : الجنة الملتفة بالأغصان ، وقال الكسائي : { ألفافاً } ، جمع لفيف . وقد قال الشاعر : [ الطويل ]

أحابيش ألفاف تباين فرعهم . . . وجذمهم عن نسبة المتقرب{[11568]} .


[11568]:الأحابيش: أحياء من القارة تجمعوا في حرب كانت بين بني ليث وقريش قبل الإسلام، فسميت تلك الأحياء بالأحابيش من قبل تجمعها، والقارة قبيلة من كنانة، سموا قارة لاجتماعهم والتفافهم، وألفاف: جمع لفيف، واللفيف: القوم يجتمعون من قبائل شتى ليس أصلهم واحدا، وفرع الرجل: أولاده، وجذم القوم: أصلهم، والنسبة القرابة، والتقرب: التدني إلى الشيء والتوصل إلى إنسان بقربه، والشاهد في البيت أن الألفاف هي جمع لفيف، واللفيف هم القوم الذي يجتمعون بعضهم مع بعض.