وجملة { أَن لاَّ تعبدوا إِلاَّ الله } بدل من قوله { إِنَّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } أى أرسلناه بأن لا تعبدوا إلا الله .
وقوله : { إني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ } جملة تعليلية ، تبين حرص نوح الشديد على مصلحة قومه ومنفعتهم .
أى إنى أحذركم من عبادة غير الله ، لأن هذه العبادة ستؤدى بكم إلى وقوع العذاب الأليم عليكم ، وما حملنى على هذا التحذير الواضح إلا خوفى عليكم ، وشفقتى بكم ، فأنا منكم وأنتم منى بمقتضى القرابة والنسب .
ووصف اليوم بالأليم على سبيل المجاز العقلى ، وهو أبلغ من أن يوصف العذاب بالأليم ، لأن شدة العذاب لما بلغت الغاية والنهاية فى ذلك ، جعل الوقت الذى تقع فيه وقتا أليما أى مؤلما .
وقوله : أنْ لا تَعْبُدُوا إلاّ اللّهَ فمن كسر الألف في قوله : إني جعل قوله : أرْسَلْنا عاملاً في «أَنْ » التي في قوله : أنْ لا تَعْبُدُوا إلاّ اللّهَ ويصير المعنى حينئذ : ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه ، أن لا تعبدوا إلا الله ، وقل لهم إنّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ . ومن فتحها ، ردّ «أنْ » في قوله : أنْ لا تَعْبُدُوا عليها ، فيكون المعنى حينئذ : لقد أرسلنا نوحا إلى قومه بأني لكم نذير مبين ، بأن لا تعبدوا إلا الله . ويعني بقوله : بأن لا تعبدوا إلا الله أيها الناسُ ، عبادة الاَلهة والأوثان وإشراكها في عبادته ، وأفردوا الله بالتوحيد وأخلصوا له العبادة ، فإنه لا شريك له في خلقه . وقوله : إنّي أخافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ ألِيم يقول : إني أيها القوْم إن لم تَخُصّوا الله بالعبادة وتفردوه بالتوحيد وتخلعوا ما دونه من الأنداد والأوثان ، أخاف عليكم من الله عذاب يوم مؤلم عقابُه وعذابه لمن عذّب فيه . وجعل الأليم من صفة اليوم وهو من صفة العذاب ، إذ كان العذاب فيه كما قيل : وَجَعَلَ اللّيْلَ سَكَنا وإنما السّكن من صفة ما سكن فيه دون الليل .
جملة { ألا تعبدوا إلاّ الله } مفسرة لجملة { أرسلنا } لأن الإرسال فيه معنى القول دون حروفه ، ويجوز كونها تفسيراً ل { نذير } لما في { نذير } من معنى القول ، كقوله في سورة نوح ( 2 ، 3 ) { قال يا قوم إني لَكمْ نَذير مبين أن اعبدوا الله واتّقوه } وهذا الوجه متعين على قراءة فتح همزة ( أني ) إذا اعتبرت ( أنّ ) تفسيرية . ويجوز جعل ( أنْ ) مخففة من الثقيلة فيكون بدلاً من { أني لكم نذير مبين } على قراءة فتح الهمزة واسمها ضمير شأن محذوفاً ، أي أنّه لا تعبدوا إلاّ الله .
وجملة { إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم } تعليل ل { نذير } لأن شأن النذارة أن تثقل على النفوس وتخَزُهم فكانت جديرة بالتعليل لدفع حرج ما يلاقونه .
ووصف اليوم بالأليم مجاز عقلي ، وهو أبلغ من أن يوصف العذاب بالأليم ، لأن شدة العذاب لما بلغت الغاية جعل زمانه أليماً ، أي مؤلماً .
وجملة { أخاف عليكم } ونحوها مثل أخشى عليك ، تستعمل للتوقّع في الأمر المظنون أو المقطوع به باعتبار إمكان الانفلات من المقطوع به ، كقول لبيد :
أخشى على أربَد الحتوف ولا *** أخشَى عليه الرياح والمَطرا
فيتعدّى الفعل بنفسه إلى الخوف منه ويتعدى إلى المخوف عليه بحرف ( على ) كما في الآية وبيت لبيد .
و ( العذاب ) هنا نكرة في المعنى ، لأنه أضيف إلى نكرة فكان محتملاً لعذاب الدنيا وعذاب الآخرة . فأما عذاب الدنيا فليس مقطوعاً بنزوله بهم ولكنه مظنون من نوح عليه السلام بناء على ما علمه من عناية الله بإيمان قومه وما أوحي إليه من الحرص في التبليغ ، فعلم أن شأن ذلك أن لا يترك مَن عَصَوْه دون عقوبة . ولذلك قال في كلامه الآتي { إنما يأتيكم به الله إن شاء } [ هود : 33 ] على ما يأتي هنالك . وكان العذاب شاملاً لعذاب الآخرة أيضاً إن بقوا على الكفر ، وهو مقطوع به لأنّ الله يقرن الوعيد بالدعوة ، فلذلك قال نوح عليه السلام في كلامه الآتي { وما أنتم بمعجزين } [ هود : 33 ] ، وقد تبادر إلى أذهان قومه عذاب الدنيا لأنهم لا يؤمنون بالبعث فلذلك قالوا في كلامهم الآتي { فأتنا بما تعدنا إن كنتم من الصادقين } [ هود : 32 ] . ولعلّ في كلام نوح عليه السّلام ما تفيدهم أنه توعدهم بعذاب في الدنيا وهو الطوفان .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
...لقد أرسلنا نوحا إلى قومه بأني لكم نذير مبين، بأن لا تعبدوا إلا الله. ويعني بقوله: بأن لا تعبدوا إلا الله أيها الناسُ، عبادة الآلهة والأوثان وإشراكها في عبادته، وأفردوا الله بالتوحيد وأخلصوا له العبادة، فإنه لا شريك له في خلقه. وقوله:"إنّي أخافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ ألِيم" يقول: إني أيها القوْم إن لم تَخُصّوا الله بالعبادة وتفردوه بالتوحيد وتخلعوا ما دونه من الأنداد والأوثان، أخاف عليكم من الله عذاب يوم مؤلم عقابُه وعذابه لمن عذّب فيه...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
إنما بدئ بالدعاء إلى العبادة دون سائر الطاعات، لأنها أهم ما يدعى إليه من خالف الحق فيه ولأنه يجب أن يفعل كل واحدة من الطاعات على وجه الإخلاص والعبادة فيها لله. وانما قال "إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم "مع أن عذاب الكافر معلوم لأنه يخاف ما لم يعلم ما يؤول إليه أمرهم من إيمان أو كفر، وهذا لطف في الاستدعاء وأقرب إلى الإجابة في غالب أمر الناس...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
المقصود من الرسالة قوله سبحانه: {أن} أي نذير لأجل أن {لا تعبدوا} أي شيئاً أصلاً {إلا الله} أي الملك الأعظم -ومعنى النذارة قوله: {إني أخاف عليكم} وعظم العذاب المحذر منه بقوله: {عذاب يوم أليم} وإذا كان اليوم مؤلماً فما الظن بما فيه من العذاب!...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{إني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} تعليلٌ لموجب النهي وتصريحٌ بالمحذور وتحقيقٌ للإنذار، والمرادُ به يومُ القيامةِ أو يومُ الطوفان...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{أن لا تعبدوا إلا الله} بأن لا تعبدوا إلا الله، اعبدوه وحده ولا تشركوا به شيئا "وهذا عين ما تقدم في الآية الثانية "وكانوا أول قوم أشركوا بالله واتخذوا له الأنداد، وكان أول رسول أرسله الله تعالى إلى أهل الأرض كما تقدم في قصته من سورة الأعراف {إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم} أي شديد الألم وهو يوم القيامة أو يوم عذاب الاستئصال بالطوفان، وصف بالألم للمبالغة، وإنما يشعر بالألم من يعذب فيه من الكافرين الظالمين، وفي قصته من سورة الأعراف {عذاب يوم عظيم} [الأنعام: 15] أي ألمه وهوله، وهو أقرب إلى قوله في الآية الثالثة من هذه السورة {عذاب يوم كبير} [هود:3] والمراد واحد.
ويجوز أن يكون ما قاله نوح جامعا لمعنى الألم ومعنى العظمة والكبر إذ القرآن يبين المعاني المحكية بالألفاظ المختلفة في السور المتعددة كما قلنا من قبل، ويأتي في بعضها بما يغني عن بعض، ومن ذلك قول نوح في سورة المؤمنين بعد الأمر بعبادة التوحيد وتقريره {أفلا تتقون} [الأعراف: 65] ومثلها فيها عن الرسول الذي بعده. وكان كل رسول يأمر قومه بالتقوى كما كرر حكايته عنهم في سورة الشعراء إذ التقوى ملاك الأمر كله.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ومرة أخرى يبلور مضمون الرسالة في حقيقة جديدة: (أن لا تعبدوا إلا الله).. فهذا هو قوام الرسالة، وقوام الإنذار. ولماذا؟ (إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم).. فيتم الإبلاغ ويتم الإنذار، في هذه الكلمات القصار.. واليوم ليس أليما. إنما هو مؤلم. والأليم -اسم مفعول أصله: مألوم!- إنما هم المألومون في ذلك اليوم. ولكن التعبير يختار هذه الصيغة هنا، لتصوير اليوم ذاته بأنه محمل بالألم، شاعر به، فما بال من فيه؟...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
جملة {إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم} تعليل ل {نذير} لأن شأن النذارة أن تثقل على النفوس وتخَزُهم فكانت جديرة بالتعليل لدفع حرج ما يلاقونه. ووصف اليوم بالأليم مجاز عقلي، وهو أبلغ من أن يوصف العذاب بالأليم، لأن شدة العذاب لما بلغت الغاية جعل زمانه أليماً، أي مؤلماً. وجملة {أخاف عليكم} ونحوها مثل أخشى عليك، تستعمل للتوقّع في الأمر المظنون أو المقطوع به باعتبار إمكان الانفلات من المقطوع به... و (العذاب) هنا نكرة في المعنى، لأنه أضيف إلى نكرة فكان محتملاً لعذاب الدنيا وعذاب الآخرة. فأما عذاب الدنيا فليس مقطوعاً بنزوله بهم ولكنه مظنون من نوح عليه السلام بناء على ما علمه من عناية الله بإيمان قومه وما أوحي إليه من الحرص في التبليغ، فعلم أن شأن ذلك أن لا يترك مَن عَصَوْه دون عقوبة. ولذلك قال في كلامه الآتي {إنما يأتيكم به الله إن شاء} [هود: 33] على ما يأتي هنالك. وكان العذاب شاملاً لعذاب الآخرة أيضاً إن بقوا على الكفر، وهو مقطوع به لأنّ الله يقرن الوعيد بالدعوة، فلذلك قال نوح عليه السلام في كلامه الآتي {وما أنتم بمعجزين} [هود: 33]، وقد تبادر إلى أذهان قومه عذاب الدنيا لأنهم لا يؤمنون بالبعث فلذلك قالوا في كلامهم الآتي {فأتنا بما تعدنا إن كنتم من الصادقين} [هود: 32]. ولعلّ في كلام نوح عليه السّلام ما تفيدهم أنه توعدهم بعذاب في الدنيا وهو الطوفان...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللَّهَ} لتلتقي لديكم العبادة بالخط المستقيم الذي ينبغي لها أن تسير عليه، لأن عبادة غيره لا تحمل أيّ معنىً في حساب الحقيقة، وفي ميزان القيمة، لأن كل من هو غير الله مخلوق له ومحتاجٌ إليه في كل شيء، فكيف يعبده من هو مثله في المخلوقية والحاجة؟ وقد تحدثنا سابقاً، أن العبادة تمثل الكلمة الجامعة للنهج الإلهي الرسالي الذي يتحرك فيه الإنسان انسجاماً مع إرادة الله، لأنه يمثل خط السير في كل تفريعاته ومداخله ومخارجه، ويلتقي جانب التوحيد فيها، بتوحيد الفكر والشريعة والمنهج، في كل أقوال الإنسان وأفعاله على أساس كلمة الله، فلا مجال لغيرها في ما يفكر فيه، أو في ما يشرّعه، أو ما يتحرك فيه من منهج، ولهذا اقتصر القرآن في حديثه عن رسالة نوح عليها، في الوقت الذي نعرف فيه أن هناك تفاصيل كثيرة، تتعلق بالقضايا الجزئية التي تحكم حياة الناس في ما يريده الله منهم. لهفة الرسول: {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} وفي هذا التعبير بالخوف نستشعر المعنى الإنساني الذي ينطلق به الرسول، ليوحي إلى الناس أنه ليس إنساناً يفكر فيهم بطريقةٍ جامدةٍ، ورسميةٍ تتوسل المفردات القانونية في حساب الجزاء، بل هو إنسان يتحدث معهم بلغة الإحساس والشعور والعاطفة، عما يراه كمثل الشمس من مستقبل مؤلم للمتمردين وما سيواجهونه من العذاب الأليم في يوم القيامة، إذ يناديهم في ما يشبه اللهفة الملتاعة، ليرجعوا عن غيّهم وكفرهم لئلا يلاقوا العذاب الشديد. ومن خلال ذلك نفهم ما على الداعية أن يعيشه من تفاعل مع مشاكل الآخرين، ليعتبر الانحراف لديهم مشكلةً ترتبط بإحساسه تجاههم، ليتحسسوا العاطفة في كلماته، وتعبيراته، ونظرات عينيه، ونبضات قلبه ووجهه، وذلك هو خط سير الأنبياء، مما يجب أن تتحرك البشريّة معه في طريقها الطويل، وتلك هي دعوة نوح للنبي (ع) لقومه، فكيف أجابوه؟...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
... نقرأ في هذه الآيات وأمثالها في الحديث عن الأنبياء أن دعوتهم جميعاً تتلخص في توحيد الله سبحانه. فإذا كان جميع أفراد المجتمع موحدّون ولا يعبدون إلاّ الله، ولا ينقادون للأوثان الوهمية الخارجية منها والداخلية من قبيل الأنانية والهوى والشهوات والمقام والجاه والنساء والبنين فلا يبقى أثر للسلبيات والخبائث في المجتمع البشري. فإذا لم يصنع الشخص الضعيف من ضعفه هذا صنماً ليسجد له ويتبع أمره، فلا استكبار حينئذ ولا استعمار، ولا آثارهما الوخيمة من قبيل الذل والأسر والتبعية والميول المنحرفة وأنواع الشقاء بين أفراد المجتمع، لأنّ كل هذه الأُمور وليدة الانحراف عن عبادة الله والتوجه نحو الأصنام والطواغيت.. فلننظر الآن أوّل ردّ فعل من قبل الطواغيت واتباع الهوى والمترفين وأمثالهم إِزاء إِنذار الأنبياء، كيف كان وماذا كان؟!