ثم حكى - سبحانه - بعد ذلك حالة إخوة يوسف وهم يتآمرون عليه ، وحالتهم وهم يجادلون أباهم في شأنه . وحالتهم وهم ينفذون مؤامراتهم المنكرة وحالتهم بعد أن نفذوها وعادوا إلى أبيهم ليلا يتباكون فقال - تعالى - :
{ لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ . . . } .
قوله - سبحانه - { لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ } شروع في حكاية قصة يوسف مع إخوته ، بعد أن بين - سبحانه - صفة القرآن الكريم ، وبعد أن أخبر عما رآه يوسف في منامه ، وما قاله أبوه له .
وإخوة يوسف هم : رأو بين ، وشمعون ، ولاوى ، ويهوذا ، ويساكر ، وزبولون ، ودان ، ونفتالى ، وجاد ، وأشير ، وبينامين .
والآيات : جمع آية والمراد بها هنا العبر والعظات والدلائل الدالة على قدرة الله - تعالى - ووجوب إخلاص العبادة له .
والمعنى : لقد كان في قصة يوسف مع إخوته عبر وعظات وعظيمة ، ودلائل تدل على قدرة الله القاهرة ، وحكمته الباهرة ، وعلى ما للصبر وحسن الطوية من عواقب الخير والنصر ، وعلى ما للحسد والبغى من شرور وخذلان .
وقوله : " للسائلين " أى : لمن يتوقع منهم السؤال ، بقصد الانتفاع بما ساقه القرآن الكريم من مواعظ وأحكام .
أى : لقد كان فيما حدث بين يوسف وإخوته ، آيات عظيمة ، لكل من سأل عن قصتهم ، وفتح قلبه للانتفاع بما فيها من حكم وأحكام ، تشهد بصدق النبى - صلى الله عليه وسلم - فيما يبلغه عن ربه .
وهذا الافتتاح لتلك القصة ، كفيل بتحريك الانتباه لما سيلقى بعد ذلك منها ، ومن تفصيل لأحداثها ، وبيان لما جرى فيها .
القول في تأويل قوله تعالى : { لّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لّلسّائِلِينَ } .
يقول تعالى ذكره : { لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وإخُوَتِهِ } ، الأحد عشر ، { آياتٌ } ، يعني : عبرَ وذكر للسّائِلِينَ ، يعني : السائلين عن أخبارهم وقصصهم . وإنما أراد جلّ ثناؤه بذلك نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم ، وذلك أنه يقال : إن الله تبارك وتعالى إنما أنزل هذه السورة على نبيه يعلمه فيها ما لقي يوسف من إخوته وإذايته من الحسد ، مع تكرمة الله إياه ، تسلية له بذلك مما يلقى من أدانيه وأقاربه من مشركي قريش . كذلك كان ابن إسحاق يقول .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : إنما قصّ الله تبارك وتعالى على محمد خبر يوسف وبغي إخوته عليه وحسدهم إياه حين ذكر رؤياه ، لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم من بغي قومه وحسده حين أكرمه الله عزّ وجلّ بنبوّته ليتأسى به .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : { آياتٌ للسّائِلِينَ } : فقرأته عامّة قرأة الأمصار : { آياتٌ } ، على الجماع . ورُوى عن مجاهد وابن كثير أنهما قرءا ذلك على التوحيد .
والذي هو أولى القراءتين بالصواب قراءة من قرأ ذلك على الجماع ، لإجماع الحجة من القرّاء عليه .
قرأ الجمهور «آيات » بالجمع ، وقرأ ابن كثير - وحده{[6566]} - «آية » بالإفراد ، وهي قراءة مجاهد وشبل وأهل مكة ؛ فالأولى : على معنى أن كل حال من أحواله آية فجمعها . والثانية : على أنه بجملته آية ، وإن تفصل بالمعنى ، ووزن «آية » فعلة أو فعلة أو فاعلة على الخلاف فيه{[6567]} ، وذكر الزجّاج : أن في غير مصحف عثمان : «عبرة للسائلين » ؛ قال أبو حاتم : هو في مصحف أبيّ بن كعب .
وقوله : { للسائلين } يقتضي حضاً ما على تعلم هذه الأنباء ، لأنه إنما المراد آية للناس ، فوصفهم بالسؤال إذ كل واحد ينبغي أن يسأل عن مثل هذه القصص ، إذ هي مقر العبر والاتعاظ . ويصح أيضاً أن يصف الناس بالسؤال من حيث كان سبب نزول السورة سؤال سائل كما روي .
جملة ابتدائية ، وهي مبدأ القصص المقصود ، إذ كان ما قبله كالمقدمة له المنبئة بنباهة شأن صاحب القصة ، فليس هو من الحوادث التي لحقت يوسف عليه السّلام ولهذا كان أسلوب هذه الجملة كأسلوب القصص ، وهو قوله : { إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منّا } [ سورة يوسف : 8 ] نظير قوله تعالى : { إنْ يوحَى إليّ إلاّ أنّما أنا نذيرٌ مبينٌ إذ قال ربك للملائكة إنّي خالقٌ بشراً من طينٍ } [ سورة ص : 70 ، 71 ] إلى آخر القصة .
والظرفية المستفاد من { في } ظرفية مجازية بتشبيه مقارنة الدليل للمدلول بمقارنة المظروف للظرف ، أي لقد كان شأن يوسف عليه السّلام وإخوته مقارناً لدلائل عظيمة من العبر والمواعظ ، والتعريف بعظيم صنع الله تعالى وتقديره .
والآيات : الدلائل على ما تتطلب معرفته من الأمور الخفية .
والآيات حقيقة في آيات الطريق ، وهي علامات يجعلونها في المفاوز تكون بادية لا تغمرها الرمال لتكون مرشدة للسائرين ، ثم أطلقت على حجج الصدق ، وأدلة المعلومات الدقيقة . وجمع الآيات هنا مراعى فيه تعدّدها وتعدّد أنواعها ، ففي قصة يوسف عليه السّلام دلائل على ما للصّبر وحسن الطويّة من عواقب الخير والنصر ، أو على ما للحسد والإضرار بالنّاس من الخيبة والاندحار والهبوط .
وفيها من الدلائل على صدق النبي صلى الله عليه وسلم ، وأنّ القرآن وحي من الله ، إذ جاء في هذه السورة ما لا يعلمه إلاّ أحْبار أهل الكتاب دون قراءة ولا كتاب وذلك من المعجزات .
وفي بلاغة نظمها وفصاحتها من الإعجاز ما هو دليل على أنّ هذا الكلام من صنع الله ألقاه إلى رسوله صلى الله عليه وسلم معجزة له على قومه أهل الفصاحة والبلاغة .
والسائلون : مراد منهم مَن يُتوقع منه السؤال عن المواعظ والحكم كقوله تعالى : { في أربعة أياممٍ سواءً للسائلين } [ سورة فصلت : 10 ] . ومثل هذا يستعمل في كلام العرب للتشويق ، والحثّ على تطلب الخبر والقصة . قال طرفة :
سائلوا عنّا الذي يعرفنا *** بقوانا يوم تحلاق اللمم
وقال السموءل أو عبد الملك الحارثي
سَلي إن جهلت الناسَ عنّا وعنهم *** فليس سواءً عالمٌ وجهول
طُلّقتِ إن لم تَسْألي أيُّ فارس *** حَليلك إذ لاَقَى صُداءً وخَثعما
فلمّا التقينا بين السّيف بيننا *** لسائلة عنا حَفي سؤالها
وأكثر استعمال ذلك في كلامهم يكون توجيهه إلى ضمير الأنثى ، لأنّ النساء يُعنين بالسؤال عن الأخبار التي يتحدث الناس بها ، ولمّا جاء القرآن وكانت أخباره التي يشوق إلى معرفتها أخبارَ علم وحكمة صُرف ذلك الاستعمال عن التوجيه إلى ضمير النسوة ، ووجّه إلى ضمير المذكّر كما في قوله : { سَأل سائلٌ بعذابٍ واقعٍ } [ سورة المعارج : 1 ] وقوله : { عَمّ يتساءلون } [ سورة النبأ : 1 ] .
وقيل المراد ب ( السائلين ) اليهود إذ سأل فريق منهم النبي عن ذلك . وهذا لا يستقيم لأنّ السورة مكيّة ولم يكن لليهود مخالطة للمسلمين بمكة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.