ثم ثبت الله تعالى نبيه صلى الله عليه ولام المؤمنين ، فأخبرهم بأن ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم هو الحق الذي لا شك فيه .
أي : اعلم - يا محمد - أن ما أوحي إليك وأمرت به من التوجه إلى المسجد الحرام . هو الحق الذي جاءك من ربك ، وأن ما يقوله اليهود وغيرهم من المشركين هو الباطل الذي لا شك فيه ، فلا تكونن من الشاكين في كتمانهم الحق مع علمهم به ، أو في الحق الذي جاءك من ربك وهو ما أنت عليه في جميع أحوالك ومن بينها التوجه إلى المسجد الحرام .
والشك غير متوقع من الرسول صلى الله عليه وسلم ولذلك قال المفسرون إن النهي موجه إلى الأمة في شخص نبيها صلى الله عليه وسلم إذ كان فيها حديثو عهد بكفر بخشى عليهم أن يفتنوا بزخرف من القول يروج به أهل الكتاب شبهاً تعلق بأذهان من لم يرسخ الإِيمان في قلوبهم .
وقد وضح ابن جرير - رحمه الله - هذا المعنى بقوله :
فإن قال لنا قائل : " أو كان النبي صلى الله عليه وسلم شاكاص في أن الحق من ربه أو في أن القبلة التي وجهه الله إليها حق من الله - تعالى - حتى نهى عن شك في ذلك فقيل له : { فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين } .
قيل : ذلك من الكلام الذي تخرجه العرب مخرج الأمر أو النهي للمخاطب به ، والمراد به غيره كما قال جل ثناؤه :
{ ياأيها النبي اتق الله وَلاَ تُطِعِ الكافرين والمنافقين } ثم قال { واتبع مَا يوحى إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ إِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً } فخرج الكلام مخرج الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم والنهي له . والمراد به أصحابه المؤمنون به .
القول في تأويل قوله تعالى : { الْحَقّ مِن رّبّكَ فَلاَ تَكُونَنّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ }
يقول الله جل ثناؤه : اعلم يا محمد أن الحقّ ما أعلمك ربك وأتاك من عنده ، لا ما يقول لك اليهود والنصارى . وهذا من الله تعالى ذكره خبر لنبيه عليه الصلاة والسلام عن أن القبلة التي وجهه نحوها هي القبلة الحقّ التي كان عليها إبراهيم خليل الرحمَن ، ومن بعده من أنبياء الله عزّ وجلّ . يقول تعالى ذكره له : فاعمل بالحقّ الذي أتاك من ربك يا محمد ولا تكوننّ من الممترين ، يعني بقوله : فَلاَ تَكُونَنّ مِنَ المُمْتَرِينَ أي فلا تكونن من الشاكين في أن القبلة التي وجهتك نحوها قبلة إبراهيم خليلي عليه السلام وقبلة الأنبياء غيره . كما :
حدثني المثنى ، قال : حدثني إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قال : قال الله تعالى ذكره لنبيه عليه الصلاة والسلام : الحَقّ مِنْ رَبّكَ فَلاَ تَكُونَنّ مِنَ المُمْتَرِينَ يقول : لا تكن في شكّ أنها قبلتك وقبلة الأنبياء من قبلك .
حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : فَلاَ تَكُونَنّ مِنَ المُمْتَرِينَ قال : من الشاكين قال : لا تشكنّ في ذلك . والممتري : مفتعل من المرية ، والمرية هي الشكّ ، ومنه قول الأعشى :
تَدُرّ عَلَىَ أسْؤُقِ المُمْتَرِينَ رَكْضا إذَا ما السّرَابُ ارْجَحَنّ
فإن قال لنا قائل : أوَكان النبيّ صلى الله عليه وسلم شاكا في أن الحقّ من ربه ، أو في أن القبلة التي وجهه الله إليها حقّ من الله تعالى ذكره حتى نهي عن الشكّ في ذلك فَقِيل لَهُ : فَلاَ تَكُونَنّ مِنَ المُمْتَرِينَ ؟ قيل : ذلك من الكلام الذي تخرجه العرب مخرج الأمر أو النهي للمخاطب به والمراد به غيره ، كما قال جل ثناؤه : ( يَا أَيّهَا النّبيّ اتّقِ اللّهَ وَلاَ تُطِعِ الكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ ) ثم قال : ( وَاتّبِعْ ما يُوحَىَ إلَيْكَ مِنْ رَبّكَ إن اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرا ) فخرج الكلام مخرج الأمر للنبيّ صلى الله عليه وسلم والنهي له ، والمراد به أصحابه المؤمنون به . وقد بينا نظير ذلك فيما مضى قبلُ بما أغنى عن إعادته .
{ الحق من ربك } كلام مستأنف ، والحق إما مبتدأ خبره من ربك واللام للعهد ، والإشارة إلى ما عليه الرسول صلى الله عليه وسلم ، أو الحق الذي يكتمونه ، أو للجنس . والمعنى أن { الحق } ما ثبت أنه من الله تعالى كالذي أنت عليه لا ما لم يثبت كالذي عليه أهل الكتاب ، وإما خبره مبتدأ محذوف أي هو { الحق } ومن ربك حال ، أو خبر بعد خبر . وقرئ بالنصب على أنه بدل من الأول ، أو مفعول { يعلمون } { فلا تكونن من الممترين } الشاكين في أنه من ربك ، أو في كتمانهم الحق عالمين به ، وليس المراد به نهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن الشك فيه ، لأنه غير متوقع منه وليس بقصد واختيار ، بل إما تحقيق الأمر وإنه بحيث لا يشك فيه ناظر ، أو أمر الأمة باكتساب المعارف المزيحة للشك على الوجه الأبلغ .
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ( 147 )
وقوله تعالى : { الحق من ربك } ، { الحقُّ } رفع على إضمار الابتداء والتقدير هو الحق ، ويصح أن يكون ابتداء والخبر مقدر بعده( {[1398]} ) ، وقرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه { الحقَّ } بالنصب ، على أن العامل فيه { يعلمون } ، ويصح نصبه على تقدير : الزم الحق .
وقوله تعالى : { فلا تكونن من الممترين } ، الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته ، وامترى في الشيء إذا شك فيه ، ومنه المراء لأن هذا يشك في قول هذا ، وأنشد الطبري - شاهداً على أن الممترين الشاكون- قول الأعشى : [ المتقارب ]
تدر على اسؤق الممترين . . . ركضاً إذا ما السراب ارجحن( {[1399]} )
ووهم في ذلك لأن أبا عبيدة وغيره قالوا : الممترون في البيت هم الذين يْمرون الخيل بأرجلهم همزاً لتجري كأنهم يحتلبون الجري منها( {[1400]} ) ، فليس في البيت معنى من الشك كما قال الطبري( {[1401]} ) .
تذييل لجملة : { وإن فريقاً منهم ليكتمون الحق } [ البقرة : 146 ] ، على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره هذا الحق ، وحَذفُ المسند إليه في مثل هذا مما جرى على متابعة الاستعمال في حذف المسند إليه بعد جريان ما يَدل عليه مِثل قولهم بعد ذكر الديار « رَبْعٌ قَواءٌ » وبعد ذكر الممدوح « فتى » ونحو ذلك كما نبه عليه صاحب « المفتاح » . وقوله : { فلا تكونن من الممترين } نهي عن أن يكون من الشاكِّين في ذلك والمقصود من هذا .
والتعريف في { الحق } تعريف الجنس كما في قوله : { الحمد لله } [ الفاتحة : 2 ] وقولهم الكرم في العرب هذا التعريف لجزئي الجملة الظاهر والمقدَّر يفيد قصر الحقيقة على الذي يكتمونه وهو قصر قلب أي لا ما يظهرونه من التكذيب وإظهار أن ذلك مخالف للحق .
والامتراء افتعال من المِراء وهو الشك ، والافتعالُ فيه ليس للمطاوعة ومصدر المِرْية لا يعرف له فعل مجرَّد بل هو دائماً بصيغة الافتعال .
والمقصود من خطاب النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : { ولئن اتبعت } [ البقرة : 120 ] ، وقوله : { فلا تكونن من الممترين } تحذير الأمة وهذه عادة القرآن في كل تحذير مُهِم ليكون خطاب النبي بمثل ذلك وهو أقرب الخلق إلى الله تعالى وأولاهم بكرامته دليلاً على أن من وقع في مثل ذلك من الأمة قد حقت عليه كلمة العذاب ، وليس له من النجاة باب ، ويجوز أن يكون الخطاب في قوله : { من ربك } وقوله : { فلا تكونن } خطاباً لغير معيَّن من كل من يصلح ها الخطاب .