ثم شرعت السورة الكريمة فى بيان الأدلة على قدرة الله - تعالى - وعلى أن البعث حق ، وعلى أن استبعادهم له إنما هو لون من جهالاتهم وانطماس بصائرهم ، فقال - تعالى - : { أَفَلَمْ ينظروا إِلَى السمآء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ } . والاستفهام للإِنكار والتعجب من جهلهم ، والهمزة متعلقة بمحذوف ، والفاء عاطفة عليه : أى : أأعرضوا عن آيات الله فى هذا الكون ، فلم ينظروا إلى السماء فوقهم . كيف بنيانها هذا البناء العجيب ، بأن رفعناها بدون عمد ، وزيناها بالكواكب ، وحفظناها من أى تصدع أو تشقق أو تفتق . فقوله : { فُرُوجٍ } جمع فرج ، وهو الشق بين الشيئين . والمراد سلامتها من كل عيب وخلل .
ومن الآيات التى وردت فى هذا المعنى قوله - تعالى - : { الذي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً مَّا ترى فِي خَلْقِ الرحمن مِن تَفَاوُتٍ فارجع البصر هَلْ ترى مِن فُطُورٍ ثُمَّ ارجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ }
وقوله : أفَلَمْ يَنظُرُوا إلى السّماء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها يقول تعالى ذكره : أفلم ينظر هؤلاء المكذّبون بالبعث بعد الموت المُنكرون قُدرتنا على إحيائهم بعد بلائهم إلى السّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْف بَنَيْناها فسوّيناها سقفا محفوظا ، وزيناها بالنجوم وَما لَهَا مِنْ فُرُوج يعني : وما لها من صدوع وفُتوق . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : مِنْ فُرُوجٍ قال : شَقّ .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ قلت له ، يعني ابن زيد : الفروج : الشيء المتبرىء بعضه من بعض ، قال : نعم .
تفريع على قوله : { بل عجبوا أن جاءهم منذر } [ ق : 2 ] إلى قوله : { مريج } [ ق : 5 ] لأن أهمّ ما ذكر من تكذيبهم أنهم كذبوا بالبعث ، وخلق السماوات والنجوم والأرض دالّ على أن إعادة الإنسان بعد العدم في حيّز الإمكان فتلك العوالم وجدت عن عدم وهذا أدلّ عليه قوله تعالى في سورة يس ( 81 ) { أو ليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم } .
والاستفهام يجوز أن يكون إنكارياً . والنظرُ نظرَ الفكر على نحو قوله تعالى : { قل انظروا ماذا في السماوات والأرض } [ يونس : 101 ] . ومحل الإنكار هو الحال التي دل عليها { كيفَ بنيناها } ، أي ألم يتدبروا في شواهد الخليقة فتكون الآية في معنى أو لم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق .
ويجوز أن يكون الاستفهام تقريرياً ، والنظر المشاهدة ، ومحل التقرير هو فعل { ينظروا } ، أو يكون { كيف } مراد به الحال المشاهدة .
هذا وأن التقرير على نفي الشيء المراد الإقرار بإثباته طريقة قرآنية ذكرناها غير مرة ، وبينا أن الغرض منه إفساح المجال للمقرَّر إن كان يروم إنكار ما قُرر عليه ، ثقة من المقرِّر بكسر الراء بأن المقرَّر بالفتح لا يُقدم على الجحود بما قرر عليه لظهوره ، وتقدم عند قوله تعالى : { ألم يروا أنه لا يكلمهم } [ الأعراف : 148 ] ، وقوله : { ألست بربكم كلاهما } في سورة الأعراف ( 172 ) .
وهذا الوجه أشدّ في النعي عليهم لاقتضائه أن دلالة المخلوقات المذكورة على إمكان البعث يكفي فيها مجرد النظر بالعين .
و{ فوقهم } حال من السماء . والتقييد بالحال تنديد عليهم لإهمالهم التأمل مع المكنة منه إذ السماء قريبة فوقهم لا يكلفهم النظر فيها إلا رفعَ رؤوسهم .
و { كيف } اسم جامد مبْنيّ معناه : حالة ، وأكثر ما يرد في الكلام للسؤال عن الحالة فيكون خبراً قبل ما لا يستغنِي عنه مثل : كيف أنت ؟ وحالاً قبل ما يستغنى عنه نحو : كيف جاء ؟ ومفعولاً مطلقاً نحو { كيف فعل ربك } [ الفجر : 6 ] ، ومفعولاً به نحو قوله تعالى : { انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض } [ الإسراء : 21 ] . وهي هنا بدل من { فوقَهم } فتكون حالاً في المعنى . والتقدير : أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم هيئة بنينا إياها ، وتكون جملة { بنيناها } مبينة ل { كيف } .
وأطلق البناء على خلق العلويات بجامع الارتفاع . والمراد ب { السماء } هنا ما تراه العين من كرة الهواء التي تبدو كالقبة وتسمى الجوّ .
والتزيين جعل الشيء زينا ، أي حسناً أي تحسين منظرها للرائي بما يبدو فيها من الشمس نهاراً والقمر والنجوم ليلاً . واقتصر على آية تزيين السماء دون تفصيل ما في الكواكب المزَّينة بها من الآيات لأن التزيين يشترك في إدراكه جميع الذين يشاهدونه وللجمع بين الاستدلال والامتنان بنعمة التمكين من مشاهدة المرائي الحسنة كما قال تعالى : { ولكم فيها جَمال حين تريحون وحين تسرحون } [ النحل : 6 ] في شأن خَلق الأنعام في سورة النحل .
ثم يتفاوت الناس في إدراك ما في خلق الكواكب والشمس والقمر ونظامها من دلائل على مقدار تفاوت علومهم وعقولهم . والآية صالحة لإفهام جميع الطبقات .
وجملة { وما لها من فروج } عطف على جملتي { كيف بنيْنَاها وزيّناها } فهي حال ثالثة في المعنى .
والفروج : جمع فرج ، وهو الخرق ، أي يشاهدونها كأنها كُرة متصلة الأجزاء ليس بين أجزائها تفاوت يبدو كالخَرْق ولا تباعد يفصل بعضها عن بعض فيكون خرقاً في قبتها .
وهذا من عجيب الصنع إذ يكون جسم عظيم كجسم كرة الهواء الجوي مصنوعاً كالمفروغ في قالب . وهذا مشاهد لجميع طبقات الناس على تفاوت مداركهم ثم هم يتفاوتون في إدراك ما في هذا الصنع من عجائب التئام كرة الجوّ المحيط بالأرض .
ولو كان في أديم ما يسمى بالسماء تخالف من أجزائه لظهرت فيه فروج وانخفاض وارتفاع . ونظير هذه الآية قوله في سورة المُلك { الذي خلق سبع سماوات طباقا إلى قوله هل ترى من فطور } [ الملك : 3 ] .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.