فتح الرحمن في تفسير القرآن لتعيلب - تعيلب  
{إِلَّا عِبَادَكَ مِنۡهُمُ ٱلۡمُخۡلَصِينَ} (83)

{ قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي أستكبرت أم كنت من العالين( 75 )قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين( 76 )قال فاخرج منها فإنك رجيم( 77 )وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين( 78 )قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون( 79 )قال فإنك من المنظرين( 80 )إلى يوم الوقت المعلوم( 81 )قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين( 82 )إلا عبادك منهم المخلصين( 83 )قال فالحق والحق أقول( 84 )لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين( 85 ) } .

قال ربنا البارئ المهيمن : يا إبليس- من الإبلاس وهو الحزن أو القطيعة ، أو لأنه أُبْلِس من رحمة الله أُو يئس منها وقطع رجاؤه-ما منعك من السجود لهذا المخلوق الذي سويته بيدي ؟ هل بدا لك أن تتكبر أم أنت من المتعالين المتعاظمين ، لم يفارقك التأنف ؟ قال إبليس اللعين : هو لا يفضلني ، بل لا يماثلني ، فكيف يسجد من أصله النار لمن أصله الطين ؟ فعجل المولى عذابا لإبليس دون العذاب الأكبر ، وقال : فاخرج جزاء ما خالفت أمر خالقك ، واترك سكنى الجنة فإنك ذليل مهما سوّل لك الغرور أن تتكبر ؛ وإنك مطرود من رحمتي إلى يوم الدين والجزاء-لكن لا على أنها تنقطع يومئذ كما قد يُتَوَّهَمُ- قال إبليس رب فأمهلني إلى يوم تبعث خلقك ، وتجمع آدم وذريته للحساب والجزاء ؛ قال ربنا الكبير المتعال : فإني ممهلك حسبما اقتضت مشيئتي منذ الأزل ، وستؤخر إلى يوم القيامة الذي يرد إليّ علمه ؛ قال إبليس حاقدا حاسدا متوعدا- يتوعد أهل الغفلة عن الرشد- : فبقهرك يا رب وسلطانك ، أقسم بعزتك وهيمنتك لأضلن أبناء الذي طردتني ولعنتني من أجله ، ولأفتننهم وأزين لهم الشرور ، وأُهَون عليهم الغواية والغرور ، إلا من استخلصتهم لعبادتك ، وأخلصوا دينهم لله وعصمتهم من الزيغ : { قال أرأيتك هذا الذي كرمت عليّ لئن أخرتني إلى يوم القيامة لأحتنكن{[3954]} ذريته إلا قليلا }{[3955]} . { قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم . ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين }{[3956]} ، قال الله عز من قائل : فالحق قسمي-ولا أقول إلا الحق- فكأن { الحق } الأول مرفوع على الابتداء ، و{ الحق } الثاني منصوب ، مفعول به لما بعده { أقول } لأملن جهنم من جنسك من الشياطين وممن تبعك من الآدميين لا أترك منكم أحدا : { قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا . واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا . إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا }{[3957]} .

يقول ابن جرير : وهذا تقريع من الله للمشركين الذين كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم وأَبَوْا الانقياد له واتباع ما جاءهم به من عند الله ، استكبارا عن أن يكونوا تبعا لرجل منهم حين قالوا : { أأنزل عليه الذكر من بيننا . . . } و{ . . هل هذا إلا بشر مثلكم . . } فقص عليهم –تعالى ذكره- قصة إبليس وإهلاكه باستكباره عن السجود لآدم بدعواه أنه خير منه- من أجل أنه خُلق من نار وخُلق آدم من طين-حتى صار شيطانا رجيما ؛ وحقت عليه من الله لعنته ؛ فحذّرهم بذلك أن يستحقوا باستكبارهم على محمد وتكذيبهم إياه فيما جاءهم به من عند الله-حسدا وتعظما- من اللعن منه والسخط ما استحقه إبليس بتكبره عن السجود لآدم . أه .


[3954]:الحنك: أعلى سقف الفم، فكأنه-وهو العدو المبين-يريد أن يبتلع أبناء آدم، ويتخذهم جندا له وحزبا، إلا من عصم الله- وقليل ما هم-
[3955]:سورة الإسراء.الآية 62.
[3956]:سورة الأعراف.الآيتان16، 17..
[3957]:سورة الإسراء الآيات 63، 64، 65.