ثم قال تعالى : { كل من عليها فان } وفيه وجهان ( أحدهما ) وهو الصحيح أن الضمير عائد إلى الأرض ، وهي معلومة وإن لم تكن مذكورة قال تعالى : { ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا } الآية وعلى هذا فله ترتيب في غاية الحسن ، وذلك لأنه تعالى لما قال : { وله الجوار المنشآت } إشارة إلى أن كل أحد يعرف ويجزم بأنه إذا كان في البحر فروحه وجسمه وماله في قبضة الله تعالى فإذا خرج إلى البر ونظر إلى الثبات الذي للأرض والتمكن الذي له فيها ينسى أمره فذكره وقال لا فرق بين الحالتين بالنسبة إلى قدرة الله تعالى وكل من على وجه الأرض فإنه كمن على وجه الماء ، ولو أمعن العاقل النظر لكان رسوب الأرض الثقيلة في الماء الذي هي عليه أقرب إلى العقل من رسوب الفلك الخفيفة فيه ( الثاني ) أن الضمير عائد إلى الجارية إلا أنه بضرورة ما قبلها كأنه تعالى قال : الجواري ولا شك في أن كل من فيها إلى الفناء أقرب ، فكيف يمكنه إنكار كونه في ملك الله تعالى وهو لا يملك لنفسه في تلك الحالة نفعا ولا ضرا ، قوله تعالى : { ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام } يدل على أن الصحيح الأول وفيه مسائل :
المسألة الأولى : { من } للعقلاء وكل ما على وجه الأرض مع الأرض فان ، فما فائدة الاختصاص بالعقلاء ؟ نقول : المنتفع بالتخويف هو العاقل فخصه تعالى بالذكر .
المسألة الثانية : الفاني هو الذي فنى وكل من عليها سيفنى فهو باق بعد ليس بفان ، نقول كقوله : ( إنك ميت ) وكما يقال للقريب إنه واصل ، وجواب آخر : وهو أن وجود الإنسان عرض وهو غير باق وما ليس بباق فهو فان ، فأمر الدنيا بين شيئين حدوث وعدم ، أما البقاء فلا بقاء له لأن البقاء استمرار ، ولا يقال هذا تثبيت بالمذهب الباطل الذي هو القول بأن الجسم لا يبقى زمانين كما قيل في العرض ، لأنا نقول قوله { من } بدل قوله ( ما ) ينفي ذلك التوهم لأني قلت : من عليها فان لا بقاء له ، وما قلت : ما عليها فان ، ومن مع كونه على الأرض يتناول جسما قام به أعراض بعضها الحياة والأعراض غير باقية ، فالمجموع لم يبق كما كان وإنما الباقي أحد جزأيه وهو الجسم وليس يطلق عليه بطريق الحقيقة لفظة ( من ) ، فالفاني ليس ما عليها وما عليها ليس بباق .
المسألة الثالثة : ما الفائدة في بيان أنه تعالى قال : { فان } ؟ نقول : فيه فوائد ( منها ) الحث على العبادة وصرف الزمان اليسير إلى الطاعة ، ( ومنها ) المنع من الوثوق بما يكون للمرء فلا يقول : إذا كان في نعمة إنها لن تذهب فيترك الرجوع إلى الله معتمدا على ماله وملكه ، ( ومنها ) الأمر بالصبر إن كان في ضر فلا يكفر بالله معتمدا على أن الأمر ذاهب والضر زائل ، ( ومنها ) ترك اتخاذ الغير معبودا والزجر على الاغترار بالقرب من الملوك وترك التقرب إلى الله تعالى فإن أمرهم إلى الزوال قريب فيبقى القريب منهم عن قريب في ندم عظيم لأنه إن مات قبلهم يلقى الله كالعبد الآبق ، وإن مات الملك قبله فيبقى بين الخلق وكل أحد ينتقم منه ويتشفى فيه ، ويستحي ممن كان يتكبر عليه وإن ماتا جميعا فلقاء الله عليه بعد التوفي في غاية الصعوبة ، ( ومنها ) حسن التوحيد وترك الشرك الظاهر والخفي جميعا لأن الفاني لا يصلح لأن يعبد .
{ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ( 26 ) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ( 27 ) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 28 ) يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ( 29 ) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 30 ) }
ذو الجلال والإكرام : ذو العظمة والكبرياء ، والتفضل بأنعمه على العباد .
26 ، 27 ، 28- { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرَامِ * فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } .
جميع ما على وجه الأرض يفنى ، فالفناء يعمّ كل من في الكون .
قال تعالى : { كلّ شيء هالك إلاّ وجهه ، له الحكم وإليه تُرجعون } . ( القصص : 88 ) .
أي : أن ملائكة السماء تَفْنى ، وكذلك الإنس والجنّ يموتون ، وذات الله باقية خالدة بلا فناء ، لا أوّل لبدايتها ، ولا آخر لنهايتها ، وهو صاحب الفضل والإنعام على عباده ، فبعد الفناء يكون البعث ، ويكون البقاء في نعيم الجنة للمتقين ، وفي عذاب النار للكافرين .
وفي الموت أنعم متعددة ، منها الراحة من المرض وأرذل العمر ، وبعد الموت تتجدد الأجيال ، وتحيا الذرية وتكبر ، ثم تهرم وتموت ، ولو استمرت الحياة لضاقت الأرض بأهلها ، وصار فوق كل قدم أكثر من مائة قدم .
ألا كل شيء ما خلا الله باطل *** وكل نعيم لا محالة زائل
فلو أنَّا إذا متنا تركنا *** لكان الموت راحة كل حي
ولكنّا إذا متنا بعثنا *** ونسأل بعد ذا عن كل شي
والآية بعد ذلك تنطق بالرهبة والحقيقة الصامتة ، فكل ما تراه على وجه الأرض معرض للفناء والموت : الإنس والجن ، والطير والوحوش ، والزواحف والحشرات ، والزرع والأنهار والأشجار ، بل وكل من في السماوات من الملائكة ، والشموس والأقمار ، والنجوم والأبراج والأفلام ، كل ذلك يشمله الفناء والهلاك .
قال تعالى : { كلّ شيء هالك إلاّ وجهه ، له الحكم وإليه تُرجعون } . ( القصص : 88 ) .
وذلك يدعونا إلى التأمل والنظر ، والاعتبار والعمل ، وإذا كانت الدنيا فانية فإن الآخرة باقية ، ومن الواجب إيثار ما يبقى على ما يفنى ، أي : يجب إيثار العمل الصالح ، وطاعة الله تعالى ، واجتناب نواهيه .
قال تعالى : { بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى * إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى } . ( الأعلى : 16-19 ) .
صفتان من صفات الله ، وهما الجلال والإكرام ، أي العظمة والكبرياء ، وفي الحديث الذي رواه الترمذي ، عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ألظُّوا بيا ذا الجلال والإكرام " viii . أي : الزموا ذلك في الدعاء .
ومن دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم : " يا حي يا قيوم ، يا بديع السماوات والأرض ، يا ذا الجلال والإكرام ، لا إله إلا أنت ، برحمتك نستغيث ، أصلح لنا شأننا كله ، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين ولا أحد من خلقك " ix .
وفي معنى الآية قوله تعالى : { كلّ شيء هالك إلاّ وجهه ، له الحكم وإليه تُرجعون } . ( القصص : 88 ) .
{ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } .
و سبحانه الخالق ، القابض الباسط ، المحيي المميت ، المعز المذل ، فالناس جميعا تتساوى في الفناء ثم تبعث على نيَّاتها ، فيكافئ الله المطيع بالثواب ، ويعاقب العاصي بعدل الجزاء ، وفي ذلك نعمة أيّ نعمة .
قال تعالى : { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرّا يره } . ( الزلزلة : 7-8 ) .
ولله الفضل في بدء الخلق ، ثم في نعمة الرزق ، ثم في نعمة الموت والبعث ، فبأي نعمة من هذه النعم تكذبان يا معشر الجن والإنس ؟ اللهم لا بشيء من نعمك ربنا نكذب ، فلك الحمد .
وصدق الله العظيم إذ يقول : { الله الذي خلقكم ثمّ رزقكم ثمّ يميتكم ثمّ يحييكم . . . } ( الروم : 40 ) .
ووجه النعمة في فناء الخلق التسوية بينهم في الموت ، ومع الموت تستوي الأقدام ، والموت سبب النقلة من دار الفناء إلى دار الثواب والجزاء .