ثم قال تعالى : { وأنه هو أمات وأحيا } والبحث فيه كما في الضحك والبكاء ، غير أن الله تعالى في الأول بين خاصة النوع الذي هو أخص من الجنس ، فإنه أظهر وعن التعليل أبعد ثم عطف عليه ما هو أعم منه ودونه في البعد عن التعليل وهي الإماتة والإحياء وهما صفتان متضادتان أي الموت والحياة كالضحك والبكاء والموت على هذا ليس بمجرد العدم وإلا لكان الممتنع ميتا ، وكيفما كان فالإماتة والإحياء أمر وجودي وهما من خواص الحيوان ، ويقول الطبيعي في الحياة لاعتدال المزاج ، والمزاج من أركان متضادة هي النار والهواء والماء والتراب وهي متداعية إلى الانفكاك ومالا تركيب فيه من المتضادات لا موت له ، لأن المتضادات كل أحد يطلب مفارقة مجاوره ، فقال تعالى : الذي خلق ومزج العناصر وحفظها مدة قادر على أن يحفظها أكثر من ذلك فإذا مات فليس عن ضرورة فهو بفعل فاعل مختار وهو الله تعالى : ( فهو الذي أمات وأحيا ) فإن قيل : متى أمات وأحيا حتى يعلم ذلك بل مشاهدة الإحياء والإماتة بناء على الحياة والموت ؟ نقول : فيه وجوه ( أحدها ) أنه على التقديم والتأخير كأنه قال : أحيا وأمات ( ثانيها ) هو بمعنى المستقبل ، فإن الأمر قريب يقال : فلان وصل والليل دخل إذا قرب مكانه وزمانه ، فكذلك الإحياء والإماتة ( ثالثها ) أمات أي خلق الموت والجمود في العناصر ، ثم ركبها وأحيا أي خلق الحس والحركة فيها .
وكذلك تنبثق من هذا النص صور لا عداد لها في الحس .
أمات وأحيا . . أنشأ الموت والحياة ، كما قال في سورة أخرى : ( الذي خلق الموت والحياة ) . وهما أمران معروفان كل المعرفة بوقوعهما المتكرر . ولكنهما خافيان كل الخفاء حين يحاول البشر أن يعرفوا طبيعتهما وسرهما الخافي على الأحياء . . فما الموت ? وما الحياة ? ما حقيقتهما حين يتجاوز الإنسان لفظهما وشكلهما الذي يراه ? كيف دبت الحياة في الكائن الحي ? ما هي ? ومن أين جاءت ? وكيف تلبست بهذا الكائن فكان ? وكيف سارت في طريقها الذي سارت فيه بهذا الكائن أو بهذه الكائنات الأحياء ? وما الموت ? وكيف كان . . قبل دبيب الحياة . وبعد مفارقتها للأحياء ? إنه السر الخافي وراء الستر المسبل ، بيد الله !
أمات وأحيا . . وتنبثق ملايين الصور من الموت والحياة . في عوالم الأحياء كلها . في اللحظة الواحدة . في هذه اللحظة . كم ملايين الملايين من الأحياء ماتت . وكم ملايين الملايين بدأت رحلة الحياة . ودب فيها هذا السر من حيث لا تعلم ومن حيث لا يعلم أحد إلا الله ! وكم من ميتات وقعت فإذا هي ذاتها بواعث حياة ! وكم من هذه الصور يتراءى على مدار القرون ، حين يستغرق الخيال في استعراض الماضي الطويل ، الذي كان قبل أن يكون الإنسان كله على هذا الكوكب . وندع ما يعلمه الله في غير هذا الكوكب من أنواع الموت والحياة التي لا تخطر على بال الإنسان !
إنها حشود من الصور وحشود ، تطلقها هذه الكلمات القلائل ، فتهز القلب البشري من أعماقه . فلا يتمالك نفسه ولا يتماسك تحت إيقاعاتها المنوعة الأصداء !
قوله جلّ ذكره : { وََأنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا } .
أماته في الدنيا ، وأحياه في القبر ؛ فالقبر إما للراحة وإِما للإحساس بالعقوبة .
ويقال : أماته في الدنيا ، وأحياه في الحشر .
ويقال : أمات نفوسَ الزاهدين بالمجاهدة ، وأحيا قلوبَ العارفين بالمشاهدة .
ويقال : أمات نفوسهم بالمعاملات ، وأحيا قلوبهم بالمواصلات .
ويقال : أماتها بالهيبة ، وأحياها بالأُنْس .
ويقال : بالاستتار ، والتجلِّي .
{ وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا } وعليه فهو مجاز ولا يخفى أن الحقيقة أيضاً تناسب الإماتة والإحياء لاسيما والموت يعقبه البكاء غالباً والإحياء عند الولاد الضحك وما أحسن قوله :
ولدتك أمك يا ابن آدم باكيا *** والناس حولك يضحكون سروراً
فاجهد لنفسك أن تكون إذا بكوا *** في يوم موتك ضاحكاً مسروراً
وقال مجاهد . والكلبي : { أَضْحَكَ } أهل الجنة { وأبكى } أهل النار ، وقيل : { أَضْحَكَ } الأرض بالنبات { وأبكى } السماء بالمطر ، وتقديم الضمير وتكرير الإسناد للحصر أي أنه تعالى فعل ذلك لا غيره سبحانه ، وكذا في أنه { هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا } فلا يقدر على الإماتة والإحياء غير عز وجل ، والقاتل إنما ينقض البنية الإنسانية ويفرق أجزاءها والموت الحاصل بذلك فعل الله تعالى على سبيل العادة في مثله فلا إشكال في الحصر .