مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَإِن تَجۡهَرۡ بِٱلۡقَوۡلِ فَإِنَّهُۥ يَعۡلَمُ ٱلسِّرَّ وَأَخۡفَى} (7)

أما العلم فقوله تعالى : { وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى } وفيه قولان ، أحدهما : أن قوله : { وأخفى } بناء المبالغة ، وعلى هذا القول نقول إنه تعالى قسم الأشياء إلى ثلاثة أقسام : الجهر ، والسر . والأخفى . فيحتمل أن يكون المراد من الجهر القول الذي يجهر به ، وقد يسر في النفس وإن ظهر البعض ، وقد يسر ولا يظهر على ما قال بعضهم . ويحتمل أن يكون المراد بالسر وبالأخفى ما ليس بقول وهذا أظهر فكأنه تعالى بين أنه يعلم السر الذي لا يسمع وما هو أخفى منه فكيف لا يعلم الجهر ، والمقصود منه زجر المكلف عن القبائح ظاهرة كانت أو باطنة ، والترغيب في الطاعات ظاهرة كانت أو باطنة ، فعلى هذا الوجه ينبغي أن يحمل السر والأخفى على ما فيه ثواب أو عقاب ، والسر هو الذي يسره المرء في نفسه من الأمور التي عزم عليها ، والأخفى هو الذي لم يبلغ حد العزيمة ، ويحتمل أن يفسر الأخفى بما عزم عليه وما وقع في وهمه الذي لم يعزم عليه ، ويتحمل ما لم يقع في سره بعد فيكون أخفى من السر ، ويحتمل أيضا ما سيكون من قبل الله تعالى من الأمور التي لم تظهر ، وإن كان الأقرب ما قدمناه مما يدخل تحت الزجر والترغيب . القول الثاني : أن أخفى فعل يعني أنه يعلم أسرار العباد وأخفى عنهم ما يعلمه وهو كقوله : { يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه } فإن قيل كيف يطابق الجزاء الشرط ؟ قلنا معناه إن تجهر بذكر الله تعالى من دعاء أو غيره ، فاعلم أنه غني عن جهرك ، وإما أن يكون نهيا عن الجهر كقوله : { واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول } وإما تعليما للعباد أن الجهر ليس لاستماع الله تعالى ، وإنما هو لغرض آخر ، واعلم أن الله تعالى لذاته عالم وأنه عالم بكل المعلومات في كل الأوقات بعلم واحد وذلك العلم غير متغير ، وذلك العلم من لوازم ذاته من غير أن يكون موصوفا بالحدوث أو الإمكان والعبد لا يشارك الرب إلا في السدس الأول وهو أصل العلم ثم هذا السدس بينه وبين عباده أيضا نصفان فخمسة دوانيق ونصف جزء من العلم مسلم له والنصف الواحد لجملة عباده ، ثم هذا الجزء الواحد مشترك بين الخلائق كلهم من الملائكة الكروبية والملائكة الروحانية وحملة العرش وسكان السماوات وملائكة الرحمة وملائكة العذاب وكذا جميع الأنبياء الذين أولهم آدم وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين وكذا جميع الخلائق كلهم في علومهم الضرورية والكسبية والحرف والصناعات وجميع الحيوانات في إدراكاتها وشعوراتها والاهتداء إلى مصالحها في أغذيتها ومضارها ومنافعها ، والحاصل لك من ذلك الجزء أقل من الذرة المؤلفة ، ثم إنك بتلك الذرة عرفت أسرار إلهيته وصفاته الواجبة والجائزة والمستحيلة .

فإذا كنت بهذه الذرة عرفت هذه الأسرار فكيف يكون علمه بخمس دوانيق ونصف . أفلا يعلم بذلك العلم أسرار عبوديتك ؟ فهذا تحقيق قوله : { وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى } بل الحق أن الدينار بتمامه له ، لأن الذي علمته فإنما علمته بتعليمه على ما قال : { أنزله بعلمه } وقال : { ألا يعلم من خلق } ولهذا مثال وهو الشمس فإن ضوءها يجعل العالم مضيئا ، ولا ينتقص ألبتة من ضوئها شيء ، فكذا ههنا فكيف لا يكون عالما بالسر والأخفى ، فإن من تدبيراته في خلق الأشجار وأنواع النبات أنها ليس لها فم ولا سائر آلات الغذاء فلا جرم أصولها مركوزة في الأرض تمتص بها الغذاء فيتأدى ذلك الغذاء إلى الأغصان ومنها إلى العروق ومنها إلى الأوراق ، ثم إنه تعالى جعل عروقها كالأطناب التي بها يمكن ضرب الخيام . وكما أنه لا بد من مد الطنب من كل جانب لتبقى الخيمة واقفة ، كذلك العروق تذهب من كل جانب لتبقى الشجرة واقفة ، ثم لو نظرت إلى كل ورقة وما فيها من العروق الدقيقة المبثوثة فيها ليصل الغذاء منها إلى كل جانب من الورقة ليكون ذلك تقوية لجرم الورقة فلا يتمزق سريعا ، وهي شبه العروق المخلوقة في بدن الحيوان لتكون مسالك للدم والروح فتكون مقوية للبدن ، ثم انظر إلى الأشجار فإن أحسنها في المنظر الدلب والخلاف ، ولا حاصل لهما ، وأقبحها شجرة التين والعنب ، و [ لكن ] انظر إلى منفعتهما ، فهذه الأشياء وأشباهها تظهر أنه لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض .