مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{قُلۡ كَفَىٰ بِٱللَّهِ بَيۡنِي وَبَيۡنَكُمۡ شَهِيدٗاۖ يَعۡلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۗ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِٱلۡبَٰطِلِ وَكَفَرُواْ بِٱللَّهِ أُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡخَٰسِرُونَ} (52)

ثم قال تعالى : { قل كفى بالله بيني وبينكم شهيدا } لما ظهرت رسالته وبهرت دلالته ولم يؤمن به المعاندون من أهل الكتاب قال كما يقول الصادق إذا كذب وأتى بكل ما يدل على صدقه ولم يصدق الله يعلم صدقي وتكذيبك أيها المعاند وهو على ما أقول شهيد يحكم بيني وبينكم ، كل ذلك إنذار وتهديد يفيده تقريرا وتأكيدا ، ثم بين كونه كافيا بكونه عالما بجميع الأشياء . فقال : { يعلم ما في السماوات والأرض } وههنا مسألة : وهي أن الله تعالى قال في آخر الرعد { ويقول الذين كفروا لست مرسلا قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب } فأخر شهادة أهل الكتاب ، وفي هذه السورة قدمها حيث قال : { فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به } ومن هؤلاء من يؤمن به أي من أهل الكتاب فنقول الكلام هناك مع المشركين ، فاستدل عليهم بشهادة غيرهم ثم إن شهادة الله أقوى في إلزامهم من شهادة غير الله ، وههنا الكلام مع أهل الكتاب ، وشهادة المرء على نفسه هو إقراره وهو أقوى الحجج عليه فقدم ما هو ألزم عليهم .

ثم إنه تعالى لما بين الطريقين في إرشاد الفريقين المشركين وأهل الكتاب عاد إلى الكلام الشامل لهما والإنذار العام فقال تعالى : { والذين آمنوا بالباطل وكفروا بالله أولئك هم الخاسرون } أي الذين آمنوا بما سوى الله لأن ما سوى الله باطل لأنه هالك بقوله : { كل شيء هالك إلا وجهه } وكل ما هلك فقد بطل فكل هالك باطل وكل ما سوى الله باطل ، فمن آمن بما سوى الله فقد آمن بالباطل ، وفيه مسائل :

المسألة الأولى : قوله : { أولئك هم الخاسرون } يقتضي الحصر أي من أتى بالإيمان بالباطل والكفر بالله فهو خاسر فمن يأتي بأحدهما دون الآخر ينبغي أن لا يكون خاسرا فنقول يستحيل أن يكون الآتي بأحدهما لا يكون آتيا بالآخر ، أما الآتي بالإيمان بما سوى الله فلأنه أشرك بالله فجعل غير الله مثل غيره لكن غيره عاجز جاهل ممكن باطل فيكون الله كذلك فيكون إنكارا لله وكفرا به ، وأما من كفر به وأنكره فيكون قائلا بأن العالم ليس له إله موجد فوجود العالم من نفسه ، فيكون قائلا بأن العالم واجب والواجب إله ، فيكون قائلا بأن غير الله إله فيكون إثباتا لغير الله وإيمانا به .

المسألة الثانية : إذا كان الإيمان بما سوى الله كفرا به ، فيكون كل من آمن بالباطل فقد كفر بالله ، فهل لهذا العطف فائدة غير التأكيد الذي هو في قول القائل قم ولا تقعد واقرب مني ولا تبعد ؟ نقول نعم فيه فائدة غيرها ، وهو أنه ذكر الثاني لبيان قبح الأول كقول القائل أتقول بالباطل وتترك الحق لبيان أن القول باطل قبيح .

المسألة الثالثة : هل يتناول هذا أهل الكتاب أي هل هم آمنوا بالباطل وكفروا بالله ؟ نقول نعم ، لأنهم لما صح عندهم أن معجزة النبي من عند الله وقطعوا بها وعاندوا وقالوا إنها من عند غير الله ، يكون كمن رأى شخصا يرمي حجارة ، فقال إن رامي الحجارة زيد يقطع بأنه قائل بأن هذا الشخص زيد حتى لو سئل عن عين ذلك الشخص وقيل له من هذا الرجل يقول زيد ، فكذلك هم لما قطعوا بأن مظهر المعجزة هو الله وقالوا بأن محمدا مظهر هذا يلزمهم أن يقولوا محمد هو الله تعالى فيكون إيمانا بالباطل ، وإذا قالوا بأن من أظهر المعجزة ليس بإله مع أنهم قطعوا بخصوص مظهر المعجزة يكونون قائلين بأن ذلك المخصوص الذي هو الله ليس بإله فيكون كفرا به ، وهذا لا يرد علينا فيمن يقول فلعل العبد مخلوق الله تعالى أو مخلوق العبد ، فإنه أيضا ينسب فعل الله إلى الغير ، كما أن المعجزة فعل الله وهم نسبوها إلى غيره لأن هذا القائل جهل النسبة ، كمن يرى حجارة رميت ولم ير عين راميها ، فيظن أن راميها زيد فيقول زيد هو رامي هذه الحجارة ، ثم إذا رأى راميها بعينه ويكون غير زيد لا يقطع بأن يقول هو زيد ، وأما إذا رأى عينه ورميه للحجارة وقال رامي الحجارة زيد ، يقطع بأنه يقول هذا الرجل زيد فظهر الفرق من حيث إنهم كانوا معاندين عالمين بأن الله مظهر تلك المعجزة ، ويقولون بأنها من عند غير الله .

ثم قوله : { هم الخاسرون } كذلك بأتم وجوه الخسران ، وهذا لأن من يخسر رأس المال ولا تركبه ديون يطالب بها دون من يخسر رأس المال وتركبه تلك الديون ، فهم لما عبدوا غير الله أفنوا العمر ولم يحصل لهم في مقابلته شيء ما أصلا من المنافع ، واجتمع عليهم ديون ترك الواجبات يطالبون بها حيث لا طاقة لهم بها .