روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{قُلۡ كَفَىٰ بِٱللَّهِ بَيۡنِي وَبَيۡنَكُمۡ شَهِيدٗاۖ يَعۡلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۗ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِٱلۡبَٰطِلِ وَكَفَرُواْ بِٱللَّهِ أُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡخَٰسِرُونَ} (52)

{ قُلْ كفى بالله بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً } أي عالماً بما صدر عني من التبليغ والإنذار وبما صدر عنكم من مقابلتي بالتكذيب والإنكار فيجازي سبحانه كلا بما يليق به { يَعْلَمُ مَا فِى السموات والأرض } أي من الأمور التي من جملتها شأني وشأنكم فهو تقرير لما قبله من كفايته تعالى شهيداً ، وجوز أن يكون المعنى كفى به عز وجل شاهداً بصدقي أي مصدقاً لي فيما ادعيته بالمعجزات تصديق الشاهد لدعوى المدعى ، وجملة { يَعْلَمْ } إما صفة { شَهِيداً } أو حال أو استئناف لتعليل كفايته ، وقيل عليه : إن هذا الوجه لا يلائمه قوله تعالى : { بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ } سواء تعلق بكفي أو بشهيداً ولا قوله سبحانه : { يَعْلَمُ مَا فِى السموات } الخ ، وفيه تأمل .

وقد يؤيد ذلك بما روي أن كعب بن الأشرف . وأصحابه قالوا : يا محمد من يشهد بأنك رسول الله ؟ فنزلت { قُلْ كفى } الآية إلا أن في القلب من صحة هذه الرواية شيئاً لما أن السياق والسباق مع كفرة قريش فلا تغفل .

وأياً ما كان فلا منافاة بين هذه الآية ، وقوله تعالى : { وادعوا شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ الله } [ البقرة : 32 ] بناء على أن المعنى لا تستشهدوا بالله تعالى ولا تقولوا الله تعالى يشهد أن ما ندعيه حق كما يقوله العاجز عن إقامة البينة إما لأن الشهيد ههنا بمعنى العالم والكلام وعد ووعيد ، وأما بمعنى المصدق بالمعجزات وليست الشهادة بأحد المعنيين هناك . والباء في { بالله } زائدة والاسم الجليل فاعل { كفى } ، وقال الزجاج : أن الباء دخلت لتضمن كفى معنى اكتف فالباء كما قال اللقاني معدية لا زائدة ، قال ابن هشام في المغنى : وهو من الحسن بمكان ويصححه قولهم : اتقى الله تعالى امرؤ فعل خيراً يثب عليه أي ليتق بدليل جزم يثب ويوجبه قولهم : كفى بهند بترك التاء فإن احتج بالفاصل فهو مجوز لا موجب بدليل { وما تسقط من ورقة } [ الأنعام : 59 ] فإن عورض بأحسن بهند فالتاء لا تلحق صيغ الأمر وإن كان معناها الخبر اه .

وتعقب ذلك الشيخ يس الحمصي في حواشيه على التصريح فقال : أقول تفسير { كفى } على هذا القول باكتف غير صحيح إذ فاعل { كفى } حينئذ ضمير المخاطب ، و { كفى } ماض وهو لا يرفع ضمير المخاطب المستتر اه وفيه بعد بحث لا يخفى على المتأمل .

وظن بعض الناس أن { كفى } على هذا القول اسم فعل أمر يخاطب به المفرد المذكر وغيره نحو حي في حي على الصلاة فالمعنى هنا اكتفوا بالله ، وأنت تعلم أن هذا بعيد الإرادة من كلام الزجاج ويأباه كلام ابن هشام ، وقال ابن السراج : الفاعل ضمير الاكتفاء ، قال ابن هشام : وصحة قوله موقوفة على جواز تعلق الجار بضمير المصدر وهو قول الفارسي .

والرماني أجازوا مروري بزيد حسن وهو بعمرو قبيح ، وأجاز الكوفيون اعماله في الظرف وغيره ، ومنع جمهور البصريين أعماله مطلقاً اه .

وتعقب ذلك ابن الصائغ فقال : لا نسلم توقف الصحة على ذلك لجواز أن تكون الباء للحال ، وعليه يكون المعنى { كفى } هو أي الاكتفاء حال كونه ملتبساً بالله تعالى ، ولا يخفى أنه ما لم يبطل هذا القول لا يتم ما ادعاه ابن هشام من أن ترك التاء في كفى بهند يوجب كون كفى مضمناً معنى اكتفى فتدبر { والذين ءامَنُواْ بالباطل } قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : أي بغير الله عز وجل وهو شامل لنحو عيسى والملائكة عليهم السلام .

والباطل في الحقيقة عبادتهم وليس الباطل هنا مثله في قول حسان :

ألا كل شيء ما خلا الله باطل *** ، وقال مقاتل : أي بعبادة الشيطان ، وقيل : أي بالصنم { وَكَفَرُواْ بالله } مع تعاضد موجبات الإيمان به عز وجل { أولئك هُمُ الخاسرون } المغبونون في صفقتهم حيث اشتروا الكفر بالإيمان فاستوجبوا العقاب يوم الحساب ، وفي الكلام على ما قيل : استعارة مكنية شبه استبدال الكفر بالإيمان المستلزم للعقاب اشتراء مستلزم للخسران ، وفي الخسران استعارة تخييلية هي قرينتها لأن الخسران متعارف في التجارات ، وهذا الكلام ورد مورد الانصاف حيث لم يصرح بأنهم المؤمنون بالباطل الكافرون بالله عز وجل بل أبرزه في معرض العموم ليهجم به التأمل على المطلوب فهو كقوله تعالى : { إِنَّا أَو إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ فِى ضلال مُّبِينٍ } [ سبأ : 4 2 ] وكقول حسان :

فشركما لخيركما الفداء *** وهذا من قبيل المجادلة بالتي هي أحسن .