مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَلَقَدۡ نَادَىٰنَا نُوحٞ فَلَنِعۡمَ ٱلۡمُجِيبُونَ} (75)

قوله تعالى : { ولقد نادانا نوح فلنعم المجيبون ، ونجيناه وأهله من الكرب العظيم ، وجعلنا ذريته هم الباقين ، وتركنا عليه في الآخرين ، سلام على نوح في العالمين ، إنا كذلك نجزي المحسنين ، إنه من عبادنا المؤمنين ، ثم أغرقنا الآخرين }

اعلم أنه تعالى لما قال من قبل : { ولقد ضل قبلهم أكثر الأولين } [ الصافات : 71 ] وقال : { فانظر كيف كان عاقبة المنذرين } [ الصافات : 73 ] أتبعه بشرح وقائع الأنبياء عليهم السلام فالقصة الأولى : حكاية حال نوح عليه السلام وقوله : { ولقد نادانا نوح فلنعم المجيبون } فيه مباحث :

الأول : أن اللام في قوله : { فلنعم المجيبون } جواب قسم محذوف والمخصوص بالمدح محذوف ، أي فلنعم المجيبون نحن .

البحث الثاني : أنه تعالى ذكر أن نوحا نادى ولم يذكر أن ذلك النداء في أي الوقائع كان ؟ لا جرم حصل فيه قولان الأول : وهو المشهور عند الجمهور أنه نادى الرب تعالى في أن ينجيه من محنة الغرق وكرب تلك الواقعة والقول الثاني : أن نوحا عليه السلام لما اشتغل بدعوة قومه إلى الدين الحق بالغوا في إيذائه وقصدوا قتله ، ثم إنه عليه السلام نادى ربه واستنصره على كفار قومه ، فأجابه الله تعالى ومنعهم من قتله وإيذائه ، واحتج هذا القائل على ضعف القول الأول بأنه عليه السلام إنما دعا عليهم لأجل أن ينجيه الله تعالى وأهله ، وأجاب الله دعاءه فيه فكان حصول تلك النجاة كالمعلوم المتيقن في دعائه ، وذلك يمنع من أن يقال المطلوب من هذا النداء حصول هذه النجاة .

ثم إنه تعالى لما حكى عن نوح أنه ناداه قال بعده : { فلنعم المجيبون } وهذه اللفظة تدل على أن تلك الإجابة كانت من النعم العظيمة ، وبيانه من وجوه :

الأول : أنه تعالى عبر عن ذاته بصيغة الجمع فقال : { ولقد نادانا نوح } والقادر العظيم لا يليق به إلا الإحسان العظيم . والثاني : أنه أعاد صيغة الجمع في قوله : { فلنعم المجيبون } وذلك أيضا يدل على تعظيم تلك النعمة . لا سيما وقد وصف تلك الإجابة بأنها نعمت الإجابة .

والثالث : أن الفاء في قوله : { فلنعم المجيبون } يدل على أن حصول هذه الإجابة مرتب على ذلك النداء ، والحكم المرتب على الوصف المناسب يقتضي كونه معللا به ، وهذا يدل على أن النداء بالإخلاص سبب لحصول الإجابة ،