مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{ٱلۡيَوۡمَ تُجۡزَىٰ كُلُّ نَفۡسِۭ بِمَا كَسَبَتۡۚ لَا ظُلۡمَ ٱلۡيَوۡمَۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلۡحِسَابِ} (17)

الصفة الخامسة : من صفات ذلك اليوم قوله { اليوم تجزى كل نفس بما كسبت } .

واعلم أنه سبحانه لما شرح صفات القهر في ذلك اليوم أردفه ببيان صفات العدل والفضل في ذلك اليوم فقال : { اليوم تجزى كل نفس بما كسبت } وفيه مسألتان :

المسألة الأولى : هذا الكلام اشتمل على أمور ثلاثة : ( أولها ) إثبات الكسب للإنسان ( والثاني ) أن كسبه يوجب الجزاء ( والثالث ) أن ذلك الجزاء إنما يستوفى في ذلك اليوم فهذه الكلمة على اختصارها مشتملة على هذه الأصول الثلاثة في هذا الكتاب ، وهي أصول عظيمة الموقع في الدين ، وقد سبق تقرير هذه الأصول مرارا ، ولا بأس بذكر بعض النكت في تقرير هذه الأصول ( أما الأول ) فهو إثبات الكسب للإنسان وهو عبارة عن كون أعضائه سليمة صالحة للفعل والترك فما دام يبقى على هذا الاستواء امتنع صدور الفعل والترك عنه ، فإذا انضاف إليه الداعي إلى الفعل أو الداعي إلى الترك وجب صدور ذلك الفعل أو الترك عنه . ( وأما الثاني ) وهو بيان ترتب الجزاء عليه ، فاعلم أن الأفعال على قسمين منها ما يكون الداعي إليه طلب الخيرات الجسمانية الحاصلة في عالم الدنيا ، ومنها ما يكون الداعي إليه طلب الخيرات الروحانية التي لا يظهر كمالها إلا في عالم الآخرة وقد ثبت بالتجربة أن كثرة الأفعال سبب لحصول الملكات الراسخة ، فمن غلب عليه القسم الأول استحكمت رحمته رغبته في الدنيا وفي الجسمانيات ، فعند الموت يحصل الفراق بينه وبين مطلوبه على أعظم الوجوه ويعظم عليه البلاء ، ومن غلب عليه القسم الثاني فعند الموت يفارق المبغوض ويتصل بالمحبوب فتعظم الآلاء والنعماء ، فهذا هو معنى الكسب ، ومعنى كون ذلك الكسب موجبا للجزاء ، فظهر بهذا أن كمال الجزاء لا يحصل إلا في يوم القيامة ، فهذا قانون كلي عقلي ، والشريعة الحقة أتت بما يقوي هذا القانون الكلي في تفاصيل الأعمال والأقوال ، والله أعلم .

المسألة الثانية : هذه الآية أصل عظيم في أصول الفقه ، وذلك لأنا نقول لو كان شيء من أنواع الضرر مشروعا لكان إما أن يكون مشروعا لكونه جزاء على شيء من الجنايات أو لا لكونه جزاء والقسمان باطلان ، فبطل القول بكونه مشروعا ، أما بيان أنه لا يجوز أن يكون مشروعا ليكون جزاء على شيء من الأعمال فلأن هذا النص يقتضي تأخير الأجزية إلى يوم القيامة ، فإثباته في الدنيا يكون على خلاف هذا النص ، وأما بيان أنه لا يجوز أن يكون مشروعا للجزاء لقوله تعالى : { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } ولقوله تعالى : { وما جعل عليكم في الدين من حرج } ولقوله صلى الله عليه وسلم : «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام » عدلنا عن هذه العمومات فيما إذا كانت المضار أجزية ، وفيما ورد نص في الإذن فيه كذبح الحيوانات ، فوجب أن يبقى على أصل الحرمة فيما عداه ، فثبت بما ذكرنا أن الأصل في المضار والآلام التحريم ، فإن وجدنا نصا خاصا يدل على الشرعية قضينا به تقديما للخاص على العام ، وإلا فهو باق على أصل التحريم ، وهذا أصل كلي منتفع به في الشريعة ، والله علم .

الصفة السادسة : من صفات ذلك اليوم قوله { لا ظلم اليوم } والمقصود أنه لما قال : { اليوم تجزى كل نفس بما كسبت } أردفه بما يدل على أنه لا يقع في ذلك اليوم نوع من أنواع الظلم ، قال المحققون وقوع الظلم في الجزاء يقع على أربعة أقسام : ( أحدها ) أن يستحق الرجل ثوابا فيمنع منه ( وثانيها ) أن يعطي بعض بعض حقه ولكنه لا يوصل إليه حقه بالتمام ( ثالثها ) أن يعذب من لا يستحق العذاب ( ورابعها ) أن يكون الرجل مستحقا للعذاب فيعذب ويزداد على قدر حقه فقوله تعالى : { لا ظلم اليوم } يفيد نفي هذه الأقسام الأربعة ، قال القاضي هذه الآية قوية في إبطال قول المجبرة لأن على قولهم لا ظلم غالبا وشاهدا إلا من الله ، ولأنه تعالى إذا خلق فيه الكفر ثم عذبه عليه فهذا هو عين الظلم والجواب عنه معلوم .

ثم قال تعالى : { إن الله سريع الحساب } وذكر هذا الكلام في هذا الموضع لائق جدا ، لأنه تعالى لما بين أنه لا ظلم بين أنه سريع الحساب . وذلك يدل على أنه يصل إليهم ما يستحقونه في الحال ، والله أعلم .