قوله تعالى : { يوم تمور السماء مورا * وتسير الجبال سيرا } فيه مسائل :
المسألة الأولى : ما الناصب ليوم ؟ نقول المشهور أن ذلك هو الفعل الذي يدل عليه واقع أي يقع العذاب { يوم تمور السماء مورا } والذي أظنه أنه هو الفعل المدلول عليه بقوله { ما له من دافع } وإنما قلت ذلك لأن العذاب الواقع على هذا ينبغي أن يقع في ذلك اليوم ، لكن العذاب الذي به التخويف هو الذي بعد الحشر ، ومور السماء قبل الحشر ، وأما إذا قلنا معناه { ليس له دافع } يوم تمور فيكون في معنى قوله { فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا } كأنه تعالى يقول : ما له من دافع في ذلك اليوم وهو ما إذا صارت السماء تمور في أعينكم والجبال تسير ، وتتحققون أن الأمر لا ينفع شيئا ولا يدفع .
المسألة الثانية : ما مور السماء ؟ نقول خروجها عن مكانها تتردد وتموج ، والذي تقوله الفلاسفة قد علمت ضعفه مرارا .
وقوله تعالى : { وتسير الجبال سيرا } يدل على خلاف قولهم ، وذلك لأنهم وافقوا على أن خروج الجبل العظيم من مكانه جائز وكيف لا وهم يقولون بأن زلزلة الأرض مع ما فيها من الجبال ببخار يجتمع تحت الأرض فيحركها ، وإذا كان كذلك فنقول السماء قابلة للحركة بإخراجها خارجة عن السمتيات والجبل ساكن يقتضي طبعه السكون ، وإذا قبل جسم الحركة مع أنها على خلاف طبعه ، فلأن يقبلها جرم آخر مع أنها على موافقته أولى ، وقولهم القابل للحركة المستديرة لا يقبل الحركة المستقيمة في غاية الضعف ، وقوله { مورا } يفيد فائدة جليلة وهي أن قوله تعالى : { وتسير الجبال } يحتمل أن يكون بيانا لكيفية مور السماء ، وذلك لأن الجبال إذا سارت وسيرت معها سكانها يظهر أن السماء كالسيارة إلى خلاف تلك الجهة كما يشاهده راكب السفينة فإنه يرى الجبل الساكن متحركا ، فكان لقائل أن يقول السماء تمور في رأى العين بسبب سير الجبال كما يرى القمر سائرا راكب السفينة ، والسماء إذا مارت كذلك فلا يبقى مهرب ولا مفزع لا في السماء ولا في الأرض .
المسألة الثالثة : ما السبب في مورها وسيرها ؟ قلنا قدرة الله تعالى ، وأما الحكمة فالإيذان والإعلام بأن لا عود إلى الدنيا ، وذلك لأن الأرض والجبال والسماء والنجوم كلها لعمارة الدنيا والانتفاع لبني آدم بها ، فإن لم يتفق لهم عود لم يبق فيها نفع فأعدمها الله تعالى .
المسألة الرابعة : لو قال قائل كنت وعدت ببحث في الزمان يستفيد العاقل منه فوائد في اللفظ والمعنى وهذا موضعه ، فإن الفعل لا يضاف إليه شيء غير الزمان فيقال يوم يخرج فلان وحين يدخل فلان ، وقال الله تعالى : { يوم ينفع الصادقين } وقال : { ويوم تمور السماء } وقال : { يوم خلق السموات والأرض } وكذلك يضاف إلى الجملة فما السبب في ذلك ؟
فنقول الزمان ظرف الأفعال كما أن المكان ظرف الأعيان ، وكما أن جوهرا من الجواهر لا يوجد إلا في مكان ، فكذلك عرض من الأعراض لا يتجدد إلا في زمان ، وفيهما تحير خلق عظيم ، فقالوا إن كان المكان جوهرا فله مكان آخر ويتسلسل الأمر ، وإن كان عرضا فالعرض لا بد له من جوهر ، والجوهر لا بد له من مكان فيدور الأمر أو يتسلسل ، وإن لم يكن جوهرا ولا عرضا ، فالجوهر يكون حاصلا فيما لا وجود له أو فيما لا إشارة إليه ، وليس كذلك ، وقالوا في الزمان إن كان الزمان غير متجدد فيكون كالأمور المستمرة فلا يثبت فيه المضي والاستقبال ، وإن كان متجددا وكل متجدد فهو في زمان ، فللزمان زمان آخر فيتسلسل الأمر ، ثم إن الفلاسفة التزموا التسلسل في الأزمنة ، ووقعوا بسبب هذا في القول بقدم العالم ولم يلتزموا التسلسل في الأمكنة وفرقوا بينهما من غير فارق وقوم التزموا التسلسل فيهما جميعا ، وقالوا بالقدم وأزمان لا نهاية لها وبالامتداد وأبعاد لا نهاية لها ، وهم وإن خالفونا في المسألتين جميعا والفلاسفة وافقونا في إحداهما دون الأخرى لكنهم سلكوا جادة الوهم ولم يتركوا على أنفسهم سبيل الالتزام في الأزمان ، فإن قيل فالمتجدد الأول قبله ماذا ؟ نقول ليس قبله شيء ، فإن قيل فعدمه قبله أو قبله عدمه ؟ نقول قولنا ليس قبله شيء أعم من قولك قبله عدمه ، لأنا إذا قلنا ليس قبل آدم حيوان بألف رأس ، صدقنا ولا يستلزم ذلك صدق قولنا آدم قبل حيوان بألف رأس أو حيوان بألف رأس بعد آدم ، لانتفاء ذلك الحيوان أولا وآخرا وعدم دخوله في الوجود أزلا وأبدا ، فكذلك ما قلنا ، فإن قيل هذا لا يصح ، لأن الله تعالى شيء موجود وهو قبل العالم ، نقول قولنا ليس قبل المتجدد الأول شيء معناه ليس قبله شيء بالزمان ، وأما الله تعالى فليس قبله بالزمان إذ كان الله ولا زمان ، والزمان وجد مع المتجدد الأول ، فإن قيل فما معنى وجود الله قبل كل شيء غيره ؟ نقول معناه كان الله ولم يكن شيء غيره لا يقال ما ذكرتم إثبات شيء بشيء ولا يثبت ذلك الشيء إلا بما ترومون إثباته ، فإن بداية الزمان غرضكم وهو مبني على المتجدد الأول والنزاع في المتجدد ، فإن عند الخصم ليس في الوجود متجدد أول بل قبل كل متجدد ، لأنا نقول نحن ما ذكرنا ذلك دليلا ، وإنما ذكرناه بيانا لعدم الإلزام ، وأنه لا يرد علينا شيء إذا قلنا بالحدوث ونهاية الأبعاد واللزم والإلزام ، فيسلم الكلام الأول ، ثم يلزم ويقول : ألست تقول إن لنا متجددا أولا فكذلك قل له عدم ، فنقول لا بل ليس قبله أمر بالزمان ، فيكون ذلك نفيا عاما ، وإنما يكون ذلك لانتفاء الزمان ، كما ذكرنا في المثال ، إذا علمت هذا فصار الزمان تارة موجودا مع عرض وأخرى موجودا بعد عرض ، لأن يومنا هذا وغيره من الأيام كلها صارت متميزة بالمتجدد الأول ، والمتجدد الأول له زمان هو معه ، إذا عرفت أن الزمان والمكان أمرهما مشكل بالنسبة إلى بعض الأفهام والأمر الخفي يعرف بالوصف والإضافة ، فإنك إذا قلت غلام لم يعرف ، فإذا وصفته أو أضفته وقلت غلام صغير أو كبير ، وأبيض أو أسود قرب من الفهم ، وكذلك إذا قلت غلام زيد قرب ، ولم يكن بد من معرفة الزمان ، ولا يعرف الشيء إلا بما يختص به ، فإنك إذا قلت في الإنسان حيوان موجود بعدته عن الفهم ، وإذا قلت حيوان طويل القامة قربته منه ، ففي الزمان كان يجب أن يعرف بما يختص به لأن الفعل الماضي والمستقبل والحال يختص بأزمنة ، والمصدر له زمان مطلق ، فلو قلت زمان الخروج تميز عن زمان الدخول وغيره ، فإذا قلت يوم خرج أفاد ما أفاد قولك يوم الخروج مع زيادة هو أنه تميز عن يوم يخرج والإضافة إلى ما هو أشد تمييزا أولى ، كما أنك إذا قلت غلام رجل ميزته عن غلام امرأة ، وإذا قلت غلام زيد زدت عليه في الإفادة وكان أحسن ، كذلك قولنا يوم خرج لتعريف ذلك اليوم خير من قولك يوم الخروج ، فظهر من هذا البحث أن الزمان يضاف إلى الفعل وغيره لا يضاف لاختصاص الفعل بالزمان دون غيره إلا المكان في قوله اجلس حيث يجلس ، فإن حيث يضاف إلى الجمل لمشابهة ظرف المكان لظرف الزمان ، وأما الجمل فهي إنما يصح بواسطة تضمنها الفعل ، فلا يقال يوم زيد أخوك ، ويقال يوم زيد فيه خارج .
ومن جملة الفوائد اللفظية أن لات يختص استعمالها بالزمان قال الله تعالى : { ولات حين مناص } ولا يقال لات الرجل سوء ، وذلك لأن الزمان تجدد بعد تجدد ولا يبقى بعد الفناء حياة أخرى وبعد كل حركة حركة أخرى وبعد كل زمان زمان وإليه الإشارة بقوله تعالى : { كل يوم هو في شأن } أي قبل الخلق لم يخلق شيئا ، لكنه يعد ما خلق فهو أبدا دائما يخلق شيئا بعد شيء فبعد حياتنا موت وبعد موتنا حياة وبعد حياتنا حساب وبعد الحساب ثواب دائم أو عقاب لازم ولا يترك الله الفعل فلما بعد الزمان عن النفي زيد في الحروف النافية زيادة ، فإن قيل فالله تعالى أبعد عن الانتفاء فكان ينبغي أن لا تقرب التاء بكلمة لا هناك ، نقول { لات حين مناص } تأويل وعليه لا يرد ما ذكرتم وهو أن لا هي المشبهة بليس تقديره ليس الحين حين مناص ، وهو المشهور ، ولذلك اختص بالحين دون اليوم والليل لأن الحين أدوم من الليل والنهار فالليل والنهار قد لا يكون والحين يكون .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.