مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَٱلطُّورِ} (1)

مقدمة السورة:

سورة الطور

بسم الله الرحمن الرحيم

{ والطور * وكتاب مسطور * في رق منشور * والبيت المعمور * والسقف المرفوع * والبحر المسجور } هذه السورة مناسبة للسورة المتقدمة من حيث الافتتاح بالقسم وبيان الحشر فيهما ، وأول هذه السورة مناسب لآخر ما قبلها ، لأن في آخرها قوله تعالى : { فويل للذين كفروا } وهذه السورة في أولها { فويل يومئذ للمكذبين } وفي آخر تلك السورة قال : { فإن للذين ظلموا ذنوبا } إشارة إلى العذاب وقال هنا { إن عذاب ربك لواقع } وفيه مسائل :

المسألة الأولى : ما الطور ، وما الكتاب المسطور ؟ نقول فيه وجوه : ( الأول ) الطور هو جبل معروف كلم الله تعالى موسى عليه السلام ( الثاني ) هو الجبل الذي قال الله تعالى : { وطور سينين } ( الثالث ) هو اسم الجنس والمراد القسم بالجبل غير أن الطور الجبل العظيم كالطود ، وأما الكتاب ففيه أيضا وجوه : ( أحدها ) كتاب موسى عليه السلام ( ثانيها ) الكتاب الذي في السماء . ( ثالثها ) صحائف أعمال الخلق ( رابعها ) القرآن وكيفما كان فهي في رقوق ، وسنبين فائدة قوله تعالى : { في رق منشور } . وأما البيت المعمور ففيه وجوه : ( الأول ) هو بيت في السماء العليا عند العرش ووصفه بالعمارة لكثرة الطائفين به من الملائكة ( الثاني ) هو بيت الله الحرام وهو معمور بالحاج الطائفين به العاكفين ( الثالث ) البيت المعمور اللام فيه لتعريف الجنس كأنه يقسم بالبيوت المعمورة والعمائر المشهورة ، { والسقف المرفوع } السماء ، { والبحر المسجور } ، قيل الموقد يقال سجرت التنور ، وقيل هو البحر المملوء ماء المتموج ، وقيل هو بحر معروف في السماء يسمى بحر الحيوان .

المسألة الثانية : ما الحكمة في اختيار هذه الأشياء ؟ نقول هي تحتمل وجوها : ( أحدها ) إن الأماكن الثلاثة وهي : الطور ، والبيت المعمور ، والبحر المسجور ، أماكن كانت لثلاثة أنبياء ينفردون فيها للخلوة بربهم والخلاص من الخلق والخطاب مع الله ، أما الطور فانتقل إليه موسى عليه السلام ، والبيت محمد صلى الله عليه وسلم ، والبحر المسجور يونس عليه السلام ، والكل خاطبوا الله هناك فقال موسى : { أتهلكنا بما فعل السفهاء منا إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء } وقال : { أرني أنظر إليك } وأما محمد صلى الله عليه وسلم فقال : «السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، لا أحصي ثناء عليك كما أثنيت على نفسك » وأما يونس فقال : { لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين } فصارت الأماكن شريفة بهذه الأسباب ، فحلف الله تعالى بها ، وأما ذكر الكتاب فإن الأنبياء كان لهم في هذه الأماكن مع الله تعالى كلام والكلام في الكتاب واقترانه بالطور أدل على ذلك ، لأن موسى عليه السلام كان له مكتوب ينزل عليه وهو بالطور ، وأما ذكر السقف المرفوع ومعه البيت المعمور ليعلم عظمة شأن محمد صلى الله عليه وسلم ( ثانيها ) وهو أن القسم لما كان على وقوع العذاب وعلى أنه لا دافع له ، وذلك لأن لا مهرب من عذاب الله لأن من يريد دفع العذاب عن نفسه ، ففي بعض الأوقات يتحصن بمثل الجبال الشاهقة التي ليس لها طرف وهي متضايقة بين أنه لا ينفع التحصن بها من أمر الله تعالى كما قال ابن نوح عليه السلام { سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم } حكاية عن نوح عليه السلام .

المسألة الثالثة : ما الحكمة في تنكير الكتاب وتعريف باقي الأشياء ؟ نقول ما يحتمل الخفاء من الأمور الملتبسة بأمثالها من الأجناس يعرف باللام ، فيقال رأيت الأمير ودخلت على الوزير ، فإذا بلغ الأمير الشهرة بحيث يؤمن الالتباس مع شهرته ، ويريد الواصف وصفه بالعظمة ، يقول : اليوم رأيت أميرا ما له نظير جالسا وعليه سيما الملوك وأنت تريد ذلك الأمير المعلوم ، والسبب فيه أنك بالتنكير تشير إلى أنه خرج عن أن يعلم ويعرف بكنه عظمته ، فيكون كقوله تعالى : { الحاقة * ما الحاقة * وما أدراك ما الحاقة } فاللام وإن كانت معرفة لكن أخرجها عن المعرفة كون شدة هولها غير معروف ، فكذلك هاهنا الطور ليس في الشهرة بحيث يؤمن اللبس عند التنكير ، وكذلك البيت المعمور ، وأما الكتاب الكريم فقد تميز عن سائر الكتب ، بحيث لا يسبق إلى أفهام السامعين من النبي صلى الله عليه وسلم لفظ الكتاب إلا ذلك ، فلما أمن اللبس وحصلت فائدة التعريف سواء ذكر باللام أو لم يذكر قصدا للفائدة الأخرى وهي في الذكر بالتنكير ، وفي تلك الأشياء لما لم تحصل فائدة التعريف إلا بآلة التعريف استعملها ، وهذا يؤيد كون المراد منه القرآن وكذلك اللوح المحفوظ مشهور .

المسألة الرابعة : ما الفائدة في قوله تعالى : { في رق منشور } وعظمة الكتاب بلفظه ومعناه لا بخطه ورقه ؟ نقول هو إشارة إلى الوضوح ، وذلك لأن الكتاب المطوي لا يعلم ما فيه فقال هو في رق منشور وليس كالكتب المطوية وعلى هذا المراد اللوح المحفوظ فمعناه هو منشور لكم لا يمنعكم أحد من مطالعته ، وإن قلنا بأن المراد كتاب أعمال كل أحد فالتنكير لعدم المعرفة بعينه وفي رق منشور لبيان وصفه كما قال تعالى : { كتابا يلقاه منشورا } وذلك لأن غير المعروف إذا وصف كان إلى المعرفة أقرب شبها .

المسألة الخامسة : في بعض السور أقسم بجموع كما في قوله تعالى : { والذاريات } وقوله { والمرسلات } وقوله { والنازعات } وفي بعضها بأفراد كما في هذه السورة حيث قال : { والطور } ولم يقل والأطوار والبحار ، ولاسيما إذا قلنا المراد من الطور الجبل العظيم كالطود ، كما في قوله تعالى : { ورفعنا فوقهم الطور } أي الجبل فما الحكمة فيه ؟ نقول في الجموع في أكثرها أقسم بالمتحركات والريح الواحدة ليست بثابتة مستمرة حتى يقع القسم بها ، بل هي متبدلة بأفرادها مستمرة بأنواعها والمقصود منها لا يحصل إلا بالتبدل والتغير فقال : { والذاريات } إشارة إلى النوع المستمر إلى الفرد المعين المستقر ، وأما الجبل فهو ثابت قليل التغير والواحد من الجبال دائم زمانا ودهرا ، فأقسم في ذلك بالواحد وكذلك قوله { والنجم } والريح ما علم القسم به وفي الطور علم .