مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{يَوۡمَ لَا يُغۡنِي عَنۡهُمۡ كَيۡدُهُمۡ شَيۡـٔٗا وَلَا هُمۡ يُنصَرُونَ} (46)

قوله تعالى : { يوم لا يغني عنهم كيدهم شيئا ولا هم ينصرون } .

لما قال : { يلاقوا يومهم } وكل بر وفاجر يلاقي يومه أعاد صفة يومهم وذكر ما يتميز به يومهم عن يوم المؤمنين فقال : { يوم لا يغني } وهو يخالف يوم المؤمنين فإنه تعالى قال فيه { يوم ينفع الصادقين } ، وفيه مسائل :

المسألة الأولى : في { يوم لا يغني } وجهان : ( الأول ) بدل عن قوله { يومهم } ( ثانيهما ) ظرف { يلاقوا } أي يلاقوا يومهم يوم ، فإن قيل هذا يلزم منه أن يكون اليوم في يوم فيكون اليوم ظرف اليوم نقول هو على حد قول من يقول يأتي يوم قتل فلان يوم تبين جرائمه ولا مانع منه ، وقد ذكرنا بحث الزمان وجواز كونه ظرفا في قوله تعالى : { يومئذ } وجواز إضافة اليوم إلى الزمان مع أنه زمان .

المسألة الثانية : قال تعالى : { يوم لا يغني عنهم كيدهم } ولم يقل يوم لا يغنيهم كيدهم مع أن الإغناء يتعدى بنفسه لفائدة جليلة وهي أن قول القائل أغناني كذا يفهم منه أنه نفعني ، وقوله أغنى عني يفهم منه أنه دفع عني الضرر وذلك لأن قوله أغناني معناه في الحقيقة أفادني غير مستفيد وقوله : أغنى عني ، أي لم يحوجني إلى الحضور فأغنى غيري عن حضوري يقول من يطلب لأمر : خذوا عني ولدي ، فإنه يغني عني أي يغنيكم عني فيدفع عني أيضا مشقة الحضور فقوله { لا يغني عنهم } أي لا يدفع عنهم الضرر ، ولا شك أن قوله لا يدفع عنهم ضررا أبلغ من قوله لا ينفعهم نفعا وإنما في المؤمن لو قال يوم يغني عنهم صدقهم لما فهم منه نفعهم فقال : { يوم ينفع } كأنه قال يوم يغنيهم صدقهم ، فكأنه استعمل في المؤمن يغنيهم وفي الكافر لا يغني عنهم وهو مما لا يطلع عليه إلا من يكون عنده من علم البيان طرف ويتفكر بقريحة وقادة آيات الله ووفقه الله .

المسألة الثالثة : الأصل تقديم الفاعل على المفعول والأصل تقديم المضمر على المظهر ، أما في الأول فلأن الفاعل متصل بالفعل ولهذا قالوا فعلت فأسكنوا اللام لئلا يلزم أربع متحركات في كلمة واحدة وقالوا ضربك ولم يسكنوا لأن الكاف ضمير المفعول وهو منفصل ، وأما تقديم المضمر فلأنه يكون أشد اختصارا ، فإنك إذا قلت ضربني زيد يكون أقرب إلى الاختصار من قولك ضرب زيد إياي فإن لم يكن هناك اختصار كقولك مربي زيد ومربي فالأولى تقديم الفاعل ، وهاهنا لو قال يوم لا يغنيهم كيدهم كان الأحسن تقديم المفعول ، فإذا قال يوم لا يغني عنهم صار كما قلنا في مر زيد بي فلم لم يقدم الفاعل ، نقول فيه فائدة مستفادة من علم البيان ، وهو أن تقديم الأهم أولى فلو قال يوم لا يغني كيدهم كان السامع لهذا الكلام ربما يقول لا يغني كيدهم غيرهم فيرجو الخير في حقهم وإذا سمع لا يغني عنهم انقطع رجاؤه وانتظر الأمر الذي ليس بمغن .

المسألة الرابعة : قد ذكرنا أن معنى الكيد هو فعل يسوء من نزل به وإن حسن ممن صدر منه ، فما الفائدة في تخصيص العمل الذي يسوء بالذكر ولم يقل يوم لا يغني عنهم أفعالهم على الإطلاق ؟ نقول هو قياس بالطريق الأولى لأنهم كانوا يأتون بفعل النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وكانوا يعتقدون أنه أحسن أعمالهم فقال ما أغنى أحسن أعمالهم الذي كانوا يعتقدون فيه ليقطع رجاءهم عما دونه ، وفيه وجه آخر وهو أنه تعالى لما قال من قبل { أم يريدون كيدا } وقد قلنا إن أكثر المفسرين على أن المراد به تدبيرهم في قتل النبي صلى الله عليه وسلم قال : { هم المكيدون } أي لا ينفعهم كيدهم في الدنيا فماذا يفعلون يوم لا ينفعهم ذلك الكيد بل يضرهم وقوله { ولا هم ينصرون } فيه وجوه ( أحدها ) أنه متمم بيان وجهه هو أن الداعي أولا يرتب أمورا لدفع المكروه بحيث لا يحتاج إلى الانتصار بالغير والمنة ثم إذا لم ينفعه ذلك ينتصر بالأغيار ، فقال لا ينفعهم أفعال أنفسهم ولا ينصرهم عند اليأس وحصول اليأس عن إقبالهم ( ثانيها ) أن المراد منه ما هو المراد من قوله تعالى : { لا تغن عنى شفاعتهم شيئا ولا ينقذون } ، فقوله { يوم لا يغني عنهم كيدهم شيئا } أي عبادتهم الأصنام ، وقولهم { هؤلاء شفعاؤنا } وقولهم { ما نعبدهم إلا ليقربونا } وقوله { ولا هم ينصرون } ، أي لا نصير لهم كما لا شفيع ، ودفع العذاب ، إما بشفاعة شفيع أو بنصر ناصر ( ثالثها ) أن نقول الإضافة في كيدهم إضافة المصدر إلى المفعول ، لا إضافته إلى الفاعل ، فكأنه قال لا يغني عنهم كيد الشيطان إياهم ، وبيانه هو أنك تقول أعجبني ضرب زيدا عمرا ، وأعجبني ضرب عمرو ، فإذا اقتصرت على المصدر والمضاف إليه لا يعلم إلا بالقرينة والنية ، فإذا سمعت قول القائل ، أعجبني ضرب زيد يحتمل أن يكون زيد ضاربا ويحتمل أن يكون مضروبا فإذا سمعت قول القائل ، أعجبني قطع اللص على سرقته دلت القرينة على أنه مضاف إلى المفعول ، فإن قيل هذا فاسد من حيث إنه إيضاح واضح لأن كيد المكيد لا ينفع قطعا ، ولا يخفى على أحد ، فلا يحتاج إلى بيان ، لكن كيد الكائد يظن أنه ينفع فقال تعالى : ذلك لا ينفع ، نقول كيد الشيطان إياهم على عبادة الأصنام وهم كانوا يظنون أنها تنفع ، وأما كيدهم النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يعلمون أنه لا ينفع في الآخرة وإنما طلبوا أن ينفعهم في الدنيا لا في الآخرة فالإشكال ينقلب على صاحب الوجه الأول ولا إشكال على الوجهين جميعا إذا تفكرت فيما قلناه .