روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي [إخفاء]  
{إِذۡ قَالَ رَبُّكَ لِلۡمَلَـٰٓئِكَةِ إِنِّي خَٰلِقُۢ بَشَرٗا مِّن طِينٖ} (71)

وقوله تعالى : { إِذْ قَالَ رَبُّكَ للملائكة } الخ شروع في تفصيل ما أجمل من الاختصام الذي هو ما جرى بينهم من التقاول فهو بدل من { إِذْ يَخْتَصِمُونَ } [ ص : 69 ] بدل كل من كل ، وجوز كونه بدل بعض ، وصح إسناد الاختصام إلى الملائكة مع أن التقاول كان بينهم وبين الله تعالى كما يدل عليه { إِذْ قَالَ رَبُّكَ } الخ لأن تكليمه تعالى إياهم كان بواسطة الملك فمعنى المقاولة بين الملا الأعلى مقاولة ملك من الملائكة مع سائر الملائكة عليهم السلام في شأن الاستخلاف ومع إبليس في شأن السجود ومع آدم في قوله : { أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ } [ البقرة : 33 ] ومعنى كون المقاولة بين الملائكة وآدم وإبليس وجودها فيما بينهم في الجملة . ولا يلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز في الإسناد فالكل حقيقة لأن الملا الأعلى شامل للملك المتوسط وهو المقاول بالحقيقة وهو عز وجل مقاول بالمجاز ، ولا تقل المخاصم ليكون الأمر بالعكس ، وما يقال : إن قوله تعالى : { إِذْ قَالَ رَبُّكَ } يقتضي أن تكون مقاولته تعالى إياهم بلا واسطة فهو ممنوع لأنه إبدال زمان قصة عن زمان التفاوض فيها ، والغرض أن تعلم القصة لا مطابقة كل جزء جزء لكل جزء جزء فذلك غير لازم ومراد ، ثم فيه فائدة جليلة وهي أن مقاولة الملك إياهم أو إياهما عن الله تعالى فهم مقاولوه تعالى أيضاً ، وأريد هذا المعنى من هذا الإيراد لا من اللفظ ليلزم الجمع المذكور آنفاً ، وجعل الله عز وجل من الملا الأعلى بأن يراد به ما عدا البشر ليكون الاختصام قائماً به تعالى وبهم على معنى أنه سبحانه في مقابلتهم يخاصمونه ويخاصمهم مع ما فيه من إيهام الجهة له عز وجل ينبو المقام عنه نبواً ظاهراً ، ولم يذكر سبحانه جواب الملائكة عليهم السلام لتتم المقاولة اختصاراً بما كرر مراراً ولهذا لم يقل جل شأنه إني خالق خلقاً من صفته كيت وكيت جاعل إياه خليفة .

وروعي هذا النسق ههنا لنكتة سرية وهي أن يجعل مصب الغرض من القصة حديث إبليس ليلائم ما كان فيه أهل مكة وأنه بامتناعه عن امتثال أمر واحد جرى عليه ما جرى فكيف يكون حالهم وهم مغمورون في المعاصي ؛ وفيه أنه أول من سن العصيان فهو إمامهم وقائدهم إلى النار ، وذكر حديث سجود الملائكة وطي مقاولتهم في شأن الاستخلاف ليفرق بين المقاولتين وأن السؤال قبل الأمر ليس مثله بعده فإن الثاني يلزمه التواني ، ثم فيه حديث تكريم آدم عليه السلام ضمناً دلالة على أن المعلم والناصح يعظم وأنه شرع منه تعالى قديم ، وكان على أهل مكة أن يعاملوا النبي صلى الله عليه وسلم معاملة الملائكة لآدم لا معاملة إبليس له قاله «صاحب الكشف » وهو حسن بيد أن ما علل به الاختصار من تكرار ذلك مراراً لا يتم إلا إذا كان ذلك في سورة مكية نزلت قبل هذه السورة ، وقد علل بعضهم ترك الذكر بالاكتفاء بما في البقرة ، وفيه أن نزولها متأخر عن نزول هذه السورة لأنها مدنية وهذه مكية فلا يصح الاكتفاء إحالة عليها قبل نزولها ، وكون المراد اكتفاء السامعين للقرآن بعد ذلك لا يخفى حاله ، ولعل القصة كانت معلومة سماعاً منه صلى الله عليه وسلم وكان عالماً بها بواسطة الوحي وإن لم تكن إذ ذاك نازلة قرآناً فاختصرت ههنا لما ذكر في «الكشف » اكتفاء بذلك ، وقال فيه أيضاً : وذلك أن تقول التقاول بين الملائكة وآدم عليهم السلام حيث قال : { أَنبِئُونِى بِأَسْمَاء هَؤُلاء } [ البقرة : 31 ] تبكيتاً لهم بما نسبوا إليه من قولهم { أَتَجْعَلُ } فيها وبينه وبين إبليس إما لأنه داخل في الإنكار والتبكيت بل هو أشدهم في ذلك لكن غلب الله تعالى الملائكة لأنه أخس من أن يقرن مع هؤلاء مفرداً في الذكر أو لأنه أمر بالسجود لمعلمه فامتنع وأسمعه لما أسمع .

وقوله تعالى : { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ } الخ للإتيان بطرف مشتمل على قصة المقاولة وتصوير أصلها فلم يلزم منه أن يكون الرب جل شأن من المقاولين وإن كان بينه سبحانه وبينهم تقاول قد حكاه الله تعالى ، وهذا أقل تكلفاً مما فيه دعوى أن تكليمه تعالى كان بواسطة الملك إذ للمانع أن يمنع التوسط على أصلنا وعلى أصل المعتزلة أيضاً لاسيما إذ جعل المبكتون الملائكة كلهم ، وعلى الوجهين ظهر فائدة إبدال { إِذْ قَالَ رَبُّكَ } من { إِذْ يَخْتَصِمُونَ } على وجه بين ، والاعتراض بأنه لو كان بدلاً لكان الظاهر إذ قال ربي لقوله { مَا كَانَ لِىَ مِنْ عِلْمٍ } [ ص : 69 ] فليس المقام مما يقتضي الالتفات غير قادح فإنه على أسلوب قوله تعالى : { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السموات والأرض لَّيَقُولَنَّ خَلْقَهُمْ العزيز العليم الذي جَعَلَ لَكُمُ الارض } [ الزخرف : 9 ، 10 ] فالخطاب بلكم نظراً إلى أنه من قول الله تعالى تمم قولهم وذنبه كذلك ههنا هو من قول الله تعالى لتتميم قول النبي صلى الله عليه وسلم وهذا على نحو ما يقول : مخاطبك جاءني الأمير فتقول الذي أكرمك وحباك أو يقول رأيت الأمير يوم الجمعة فتقول : يوم خلع عليك الخلعة الفلانية ، ومنه علم أنه ليس من الالتفات في شيء وإن هذا الإبدال على هذا الأسلوب لمزيد الحسن انتهى ، وجوز أن يقال : إن { إِذْ } قوله تعالى : { إِذْ قَالَ رَبُّكَ } ظرف ليختصمون ، والمراد بالملا الأعلى الملائكة وباختصامهم قولهم لله تعالى { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدماء } [ البقرة : 30 ] في مقابلة قوله تعالى : { إِنّي جَاعِلٌ فِى الارض } [ البقرة : 30 ] إلى غير ذلك ، ولا يتوقف صحة إرادة ذلك على جعل الله تعالى من الملأ ولا على أنه سبحانه كلمهم بواسطة ملك ولا تقدم تفصيل الاختصام مطلقاً بل يكفي ذكره بعد النزول سواء ذكر قرآناً أم لا ، ويجرح تفسير الملأ بما ذكر على تفسيره بما يعم آدم عليه السلام أن ذاك على ما سمعت يستدعي القول بأن آدم كان في السماء وهو ظاهر في أنه عليه السلام خلق في السماء أو رفع إليها بعد خلقه في الأرض وكلا الأمرين لا يسلمهما كثير من الناس ، وقد نقل ابن القيم في كتابه مفتاح دار السعادة عن جمع أن آدم عليه السلام إنما خلق في الأرض وأن الجنة التي أسكنها بعد أن جرى ما جرى كانت فيها أيضاً وأتى بأدلة كثيرة قوية على ذلك ولم يجب عن شيء منها فتدبر .

وذهب بعضهم إلى أن الملأ الأعلى الملائكة وأن اختصامهم كان في الدرجات والكفارات ، فقد أخرج الترمذي وصححه . والطبراني . وغيرهما عن معاذ بن جبل قال : «احتبس عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات غداة من صلاة الصبح حتى كدنا نتراءى عين الشمس فخرج سريعاً فثوب بالصلاة فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما سلم دعا بصوته فقال : على مصفاكم ثم التفت إلينا ثم قال : أما إني أحدثكم بما حبسني عنكم الغداة إني قمت الليلة فقمت وصليت ما قدر لي ونعست في صلاتي حتى استثقلت فإذا أنا بربي تبارك وتعالى في أحسن صورة فقال : يا محمد قلت : لبيك ربي قال : فيم يختصم الملأ الأعلى ؟ قلت : لا أدري فوضع كفه بين كتفي فوجدت برد أنامله بين ثديي فتجلى لي كل شيء وعرفته فقال : يا محمد قلت : لبيك قال : فيم يختصم الملأ الأعلى ؟ قلت : في الدرجات والكفارات فقال : ما الدرجات ؟ فقلت : إطعام وإفشاء السلام والصلاة بالليل والناس نيام قال : صدقت فما الكفارات ؟ قلت : إسباغ الوضوء في المكاره وانتظار الصلاة بعد الصلاة ونقل الإقدام إلى الجماعات قال : صدقت سل يا محمد فقلت : اللهم إني أسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين وإن تغفر لي وترحمني وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضني إليك غير مفتون اللهم إني أسألك حبك وحب من أحبك وحب عمل يقربني إلى حبك قال النبي صلى الله عليه وسلم : " تعملوهن وادرسوهن فإنهم حق " ومعنى اختصامهم في ذلك على ما في البحر اختلافهم في قدر ثوابه ، ولا يخفى أن حمل الاختصام في الآية على ما ذكر بمراحل عن السياق فإنه مما لم يعرفه أهل الكتاب فلا يسلمه المشركون له عليه الصلاة والسلام أصلاً ، نعم هو اختصام آخر لا تعلق له بالمقام ، وجعل هؤلاء إذ في { إِذْ قَالَ } منصوباً باذكر مقدراً ، وكذا كل من قال : إن الاختصام ليس في شأن آدم عليه السلام يجعله كذلك .

والشهاب الخفاجي قال : الأظهر أي مطلقاً تعلق إذ باذكر المقدر على ما عهد في مثله ليبقى { إِذْ يَخْتَصِمُونَ } على عمومه ولئلا يفصل بين البدل والمبدل منه وليشتمل ما في الحديث الصحيح من اختصامهم في الكفارات والدرجات ولئلا يحتاج إلى توجيه العدول عن ربي إلى { رَبَّكَ } انتهى ، وفيه شيء لا يخفى .

ومن غريب ما قيل في اختصامهم ما حكاه الكرماني في عجائبه أنه عبارة عن مناظرتهم بينهم في استنباط العلوم كمناظرة أهل العلم في الأرض ، ويرد به على من يزعم أن جميع علومهم بالفعل ، والمعروف عن السلف أنه المقاولة في شأن آدم عليه السلام والرد به حاصل أيضاً ، والمراد بالملائكة في { إِذْ قَالَ رَبُّكَ للملائكة } ما يعم إبليس لأنه إذ ذاك كان مغموراً فيهم ، ولعل التعبير بهم دون الضمير الراجع إلى الملا الأعلى على القول بالاتحاد لشيوع تعلق القول بهم بين أهل الكتاب بهذا العنوان أو لشهرة المقابلة بين الملك والبشر فيلطف جداً قوله سبحانه : { إِذْ قَالَ رَبُّكَ للملائكة } { إِنّى خالق بَشَراً مّن طِينٍ } وقيل : عبر بذلك إظهاراً للاستغراق في المقول له ، والمراد إني خالق فيما سيأتي ، وفي التعبير بما ذكر ما ليس في التعبير بصيغة المضارع من الدلالة على أنه تعالى فاعل البتة من غير صارف ، والبشر الجسم الكثيف يلاقي ويباشر أو بادي البشرة أو بادي البشرة ظاهر الجلد غير مستور بشعر أو وبر أو صوف ، والمراد به آدم عليه السلام ؛ وذكر هنا خلقه من طين وفي آل عمران خلقه من تراب وفي الحجر من صلصال من حمإ مسنون وفي الأنبياء من عجل ولا منافاة غاية ما في الباب أنه ذكر في بعض المادة القريبة في بعض المادة البعيدة ، ثم إن ما جرى عند وقوع المحكي ليس اسم البشر الذي لم يخلق مسماه حينئذ فضلاً عن تسميته به بل عبارة كاشفة عن حاله وإنما عبر عنه بهذا الاسم عند الحكاية .

 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{إِذۡ قَالَ رَبُّكَ لِلۡمَلَـٰٓئِكَةِ إِنِّي خَٰلِقُۢ بَشَرٗا مِّن طِينٖ} (71)

قوله تعالى :{ إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشراً من طين } يعني : آدم عليه السلام .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{إِذۡ قَالَ رَبُّكَ لِلۡمَلَـٰٓئِكَةِ إِنِّي خَٰلِقُۢ بَشَرٗا مِّن طِينٖ} (71)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين} آدم عليه السلام...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

وقوله:"إذْ قالَ رَبّكَ" من صلة قوله: "إذْ يَخْتَصِمُونَ"، وتأويل الكلام: ما كان لي من علم بالملأ الأعلى إذ يختصمون حين قال ربك يا محمد "للْمَلائِكَةِ إنّي خالِقٌ بَشَرا مِنْ طِينٍ "يعني بذلك خلق آدم.

التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :

الخلق فعل الشيء على تقدير وترتيب، وكان جعل آدم على مقدار ما تقتضيه الحكمة.

وأصل الخلق التقدير، والبشر مأخوذ من البشرة وهي الجلدة الظاهرة.

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

إخباره الملائكة بذلك إنما يَدُلُّ على تفخيم شأن آدم؛ لأنه خَلَقَ ما خَلَقَ من الكونين والجنة والنار، والعرش والكرسي، والملائكة، ولم يقل في صفة شيءٍ منها ما قال في صفة آدم وأولاده، ولم يأمر بالسجود لأَحَدٍ ولا لشيءٍ إلا لآدم، وسبحان الله! خَلَقَ أَعَزَّ خَلْقِه من أَذَلِّ شيءٍ وأَخَسِّه وهو التراب والطين...

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

اعلم أن المقصود من ذكر هذه القصة المنع من الحسد والكبر، وذلك لأن إبليس، إنما وقع فيما وقع فيه بسبب الحسد والكبر، والكفار إنما نازعوا محمدا عليه السلام بسبب الحسد والكبر، فالله تعالى ذكر هذه القصة ههنا ليصير سماعها زاجرا لهم عن هاتين الخصلتين المذمومتين والحاصل أنه تعالى رغب المكلفين في النظر والاستدلال، ومنعهم عن الإصرار والتقليد.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

لما دل على أنه نذير، وأزال ما ربما أوردوه عليه، أتبعه ظرف اختصام الملأ الأعلى، أو بدل "إذ "الأولى فقال: {إذ} أي حين {قال} ودل على أنه هذا كله إحسان إليه وإنعام عليه بذكر الوصف الدال على ذلك، ولفت القول عن التكلم إلى الخطاب لأنه أقعد في المدح وأدل على أنه كلام الله كما في قوله: {قل من كان عدواً لجبريل}

[البقرة: 97] دليلاً يوهم أنه ظرف ليوحى أو لنذير فقال: {ربك} أي المحسن إليك بجعلك خير المخلوقين وأكرمهم عليه فإنه أعطاك الكوثر، وهو كل ما يمكن أن تحتاج إليه.

{للملائكة} وهم الملأ الأعلى وإبليس منهم؛ لأنه كان إذ ذاك معهم وفي عدادهم.

ولما كانوا عالمين بما دلهم عليه دليل من الله كما تقدم في سورة البقرة أن البشر يقع منه الفساد، فكانوا يبعدون أن يخلق سبحانه من فيه فساد؛ لأنه الحكيم الذي لا حكيم سواه، أكد لهم سبحانه قوله: {إني خالق بشراً} أي شخصاً ظاهر البشرة لا ساتر له من ريش ولا شعر ولا غيرهما ليكون التأكيد دليلاً على ما مضى من مراجعتهم لله تعالى التي أشار إليها بالاختصام، وبين أصله بقوله معلقاً بخالق أو بوصف بشر: {من طين}...

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :

شروعٌ في تفصيلِ ما أجمل من الاختصامِ الذي هو ما جرى بينهم من التَّقاول...

والكافُ واردٌ باعتبارِ حالِ الآمرِ؛ لكونِه أدلَّ على كونِه وحياً منزَّلاً من عنده تعالى كما في قوله تعالى: {قُلْ يا عِبَادِي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ} [سورة الزمر، الآية53] الخ دون حالِ المأمورِ وإلا لقيل: ربِّي لأنَّه داخلٌ في حيِّز الأمر.

{إِنّي خالق} أي فيما سيأتي وفيه ما ليسَ في صيغة المضارعِ من الدِّلالةِ على أنَّه تعالى فاعل له البتةَ من غير صارفٍ يلويه ولا عاطفٍ يثنيه.

{بَشَرًا} قيل: أي جسماً كثيفاً يلاقى ويُباشر، ولعل ما جرى عند وقوع المحكيِّ ليس هذا الاسم الذي لم يُخلق مسمَّاهُ حينئذٍ فضلاً عن تسميتِه به، بل عبارةٌ كاشفةٌ عن حالِه، وإنما عبر عنه بهذا الاسمِ عند الحكايةِ.

روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :

وروعي هذا النسق ههنا لنكتة سرية وهي أن يجعل مصب الغرض من القصة حديث إبليس ليلائم ما كان فيه أهل مكة وأنه بامتناعه عن امتثال أمر واحد جرى عليه ما جرى، فكيف يكون حالهم وهم مغمورون في المعاصي؛ وفيه أنه أول من سن العصيان فهو إمامهم وقائدهم إلى النار، وذكر حديث سجود الملائكة وطي مقاولتهم في شأن الاستخلاف ليفرق بين المقاولتين، وأن السؤال قبل الأمر ليس مثله بعده فإن الثاني يلزمه التواني، ثم فيه حديث تكريم آدم عليه السلام ضمناً دلالة على أن المعلم والناصح يعظم، وأنه شرع منه تعالى قديم، وكان على أهل مكة أن يعاملوا النبي صلى الله عليه وسلم معاملة الملائكة لآدم لا معاملة إبليس له...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

وعند هذا يأخذ السياق في عرض قصة البشرية؛ وما دار في الملأ الأعلى بشأنها منذ البدء. مما يحدد خط سيرها، ويرسم أقدارها ومصائرها. وهو ما أرسل محمد [صلى الله عليه وسلم] ليبلغه وينذر به في آخر الزمان:

(إذ قال ربك للملائكة: إني خالق بشراً من طين. فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين)..

وما ندري نحن كيف قال الله أو كيف يقول للملائكة. وما ندري كذلك كيف يتلقى الملائكة عن الله ولا ندري عن كنههم إلا ما بلغنا من صفاتهم في كتاب الله. ولا حاجة بنا إلى الخوض في شيء من هذا الذي لا طائل وراء الخوض فيه. إنما نمضي إلى مغزى القصة ودلالتها كما يقصها القرآن.

لقد خلق الله هذا الكائن البشري من الطين. كما أن سائر الأحياء في الأرض خلقت من طين. فمن الطين كل عناصرها. فيما عدا سر الحياة الذي لا يدري أحد من أين جاء ولا كيف جاء. ومن الطين كل عناصر ذلك الكائن البشري فيما عدا ذلك السر. وفيما عدا تلك النفخة العلوية التي جعلت منه إنساناً. من الطين كل عناصر جسده. فهو من أمه الأرض. ومن عناصرها تكون. وهو يستحيل إلى تلك العناصر حينما يفارقه ذلك السر الإلهي المجهول؛ وتفارقه معه آثار تلك النفخة العلوية التي حددت خط سيره في الحياة.

ونحن نجهل كنه هذه النفخة؛ ولكننا نعرف آثارها. فآثارها هي التي ميزت هذا الكائن الإنساني عن سائر الخلائق في هذه الأرض. ميزته بخاصية القابلية للرقي العقلي والروحي. هي التي جعلت عقله ينظر تجارب الماضي، ويصمم خطط المستقبل. وجعلت روحه يتجاوز المدرك بالحواس والمدرك بالعقول، ليتصل بالمجهول للحواس والعقول.

وخاصية الارتقاء العقلي والروحي خاصية إنسانية بحتة، لا يشاركه فيها سائر الأحياء في هذه الأرض.