مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{إِذۡ قَالَ رَبُّكَ لِلۡمَلَـٰٓئِكَةِ إِنِّي خَٰلِقُۢ بَشَرٗا مِّن طِينٖ} (71)

قوله تعالى : { إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين ، فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين . فسجد الملائكة كلهم أجمعون ، إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي استكبرت أم كنت من العالين ، قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين ، قال فاخرج منها فإنك رجيم ، وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين قال رب فانظرني إلى يوم يبعثون ، قال فإنك من المنظرين ، إلى يوم الوقت المعلوم ، قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين ، إلا عبادك منهم المخلصين ، قال فالحق والحق أقول ، لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين }

اعلم أن المقصود من ذكر هذه القصة المنع من الحسد والكبر ، وذلك لأن إبليس ، إنما وقع فيما وقع فيه بسبب الحسد والكبر ، والكفار إنما نازعوا محمدا عليه السلام بسبب الحسد والكبر ، فالله تعالى ذكر هذه القصة ههنا ليصير سماعها زاجرا لهم عن هاتين الخصلتين المذمومتين والحاصل أنه تعالى رغب المكلفين في النظر والاستدلال ، ومنعهم عن الإصرار والتقليد وذكر في تقريره أمورا أربعة أولها : أنه نبأ عظيم فيجب الاحتياط فيه والثاني : أن قصة سؤال الملائكة عن الحكمة في تخليق البشر يدل على أن الحكمة الأصلية في تخليق آدم هو المعرفة والطاعة لا الجهل والتكبر الثالث : أن إبليس إنما خاصم آدم عليه السلام لأجل الحسد والكبر فيجب على العاقل أن يحترز عنهما ، فهذا هو وجه النظم في هذه الآيات ، واعلم أن هذه القصة قد تقدم شرحها في سور كثيرة ، فلا فائدة في الإعادة إلا ما لا بد منه وفيها مسائل :

المسألة الأولى : في قوله : { إني خالق بشرا من طين } سؤالات :

الأول : أن هذا النظم إنما يصح لو أمكن خلق البشر لا من الطين ، كما إذا قيل أنا متخذ سوارا من ذهب ، فهذا إنما يستقيم لو أمكن اتخاذه من الفضة .

الثاني : ذكر ههنا أنه خلق البشر من طين ، وفي سائر الآيات ذكر أنه خلقه من سائر الأشياء كقوله تعالى في آدم إنه خلقه من تراب وكقوله : { من صلصال من حمإ مسنون } وكقوله : { خلق الإنسان من عجل } .

الثالث : أن هذه الآية تدل على أنه تعالى لما أخبر الملائكة بأنه خلق بشرا من طين . لم يقولوا شيئا ، وفي الآية الأخرى وهي التي قال : { إني جاعل في الأرض خليفة } بين أنهم أوردوا السؤال والجواب فبينهما تناقض ، والجواب عن الأول أن التقدير كأنه سبحانه وصف لهم أولا أن البشر شخص جامع للقوة البهيمية والسبعية والشيطانية والملكية ، فلما قال : { إني خالق بشرا من طين } فكأنه قال ذلك الشخص المستجمع لتلك الصفات ، إنما أخلقه من الطين ، والجواب عن الثاني أن المادة البعيدة هو التراب ، وأقرب منه الطين ، وأقرب منه الحمأ المسنون ، وأقرب منه الصلصال فثبت أنه لا منافاة بين الكل ، والجواب عن الثالث أنه في الآية المذكورة في سورة البقرة بين لهم أنه يخلق في الأرض خليفة ، وبالآية المذكورة ههنا بين أن ذلك الخليفة بشر مخلوق من الطين .