التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{إِذۡ قَالَ رَبُّكَ لِلۡمَلَـٰٓئِكَةِ إِنِّي خَٰلِقُۢ بَشَرٗا مِّن طِينٖ} (71)

احتوت الآيات حكاية قصة خلق آدم وسجود الملائكة له بأمر الله تعالى وتمرد إبليس على هذا الأمر ، وما كان من حوار بينه وبين الله . وعبارتها واضحة لا تحتاج إلى بيان آخر .

والمتبادر أنها هي الأخرى متصلة بالسياق السابق اتصال تعقيب وعظة وتذكير . وحرف " إذ " الذي بدئت به قرينة على ذلك . ولعل الاتصال قائم بنوع خاص فيما ذكرته الآيات السابقة من ذكر الطغاة واستكبارهم على دعوة الله وتعاظمهم على المؤمنين ، فجاءت هذه الآيات تحكي موقف إبليس المماثل لموقفهم .

ونستدرك هنا أن الآيات لم تذكر اسم آدم بصراحة ، وقد ذكرناه بصراحة ؛ لأن القصة في سور أخرى قد احتوت اسمه ، حيث جاء في سورة البقرة هذه الآية من سلسلة القصة ذاتها . { وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين34 } .

تعليق على قصة آدم وسجود الملائكة له وتمرد إبليس وتلقيناتها .

وقصة آدم وإبليس قد وردت في القرآن سبع مرات . ست منها في السور المكية وهي هذه السورة وسور الأعراف والحجر والإسراء والكهف وطه وواحدة في سورة البقرة المدنية . ومحتوياتها متقاربة مع بعض الفروق من حيث البيان والحوار والتلقين والتوجيه ، وبينها وبين قصص الأنبياء وأممهم مماثلة من ناحية التكرار ومن ناحية الأسلوب والسياق ففي كل مرة تأتي في سياق التنديد بالكفار ومواقفهم وتمردهم وتربط ذلك بما كان من موقف إبليس واستحقاقه من أجل ذلك غضب الله ، وبما كان من خضوع الملائكة لأمر الله ومسارعتهم إلى تنفيذه . وأسلوبها وعظي وليس سردا قصصيا وهذا هو شأن قصص الأنبياء وأقوامهم . وهذا كله يسوغ القول : إن هذه القصة لم تورد في القرآن لذاتها وفي معرض تقرير بدء خلق البشر ، وإنما أوردت بقصد العظة والاعتبار وضرب المثل . والإشارة إلى ما في عصيان الله والتمرد على أوامره من جريمة منكرة ، وإلى أن الذين يتمردون على الله ودعوته إنما هم تبع لإبليس ، ثم إلى ما في مسارعة الملائكة إلى تنفيذ أمر الله والخضوع له من المثل الحسن الذي يتضمن تقرير كون الله يستجيبون إلى الله ودعوته هم سائرون في الطريق القويم الذي سار فيه الملائكة .

ويتبادر لنا بالإضافة إلى هذا أن القصة استهدفت فيما استهدفته تسلية النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين . فالذين لا يستجيبون إلى الدعوة هم ذوو النيات الخبيثة والقلوب المريضة المتكبرون المتعالون الذين يجد فيهم إبليس مجالا للوسوسة والإغواء . ومصيرهم جميعا إلى النار . وأن طريق إبليس مسدود بالنسبة لذوي النيات الحسنة والقلوب السليمة والرغبة الصادقة في الحق والهدى ، الذين يستجيبون إلى دعوة الله ويلتفون حول نبيه . وفي جملة { إلا عبادك منهم المخلصين } من حكاية كلام إبليس تأييد لذلك .

وفي كل هذا تلقينات جليلة مستمرة المدى من حيث التبكيت بالمنحرفين وقرنهم بإبليس والتنويه بالصالحين وقرنهم بالملائكة .

ولعل مما يندمج في أهداف القصة وأسلوبها أمرين مهمين بالنسبة إلى عقائد العرب في الملائكة على ما شرحناه في سياق تفسير سورة المدثر . أولهما : توجيه العرب الذين للملائكة في أذهانهم صورة فخمة إلى الاحتذاء بهم في طاعة أمر الله واستجابة دعوته .

وثانيهما : تفهيم العرب أن الملائكة الذين يشركونهم مع الله ليسوا إلا عبيدا له يسجدون لمن خلقه من طين استغراقا في الخضوع له . وأن من كان هذا شأنه لا يجوز اتخاذه ربا أو شريكا لله واعتقاد القدرة فيه على النفع والضر والمنح والمنع . وفي القرآن آيات عديدة فيها حكاية تنصل الملائكة وتقرير بخضوعهم لله وعبوديتهم له مثل آيات سورة سبأ هذه : { ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون40 قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون41 } وآية سورة النساء هذه : { لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويتكبر فسيحشرهم إليه جميعا172 } وآيات سورة الأنبياء هذه : { وقالوا اتخذ الرحمان ولدا سبحانه بل عباد مكرمون26 لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون27 يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون28 ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين29 } .

من كرامة بني آدم في هذه القصة .

هذا ، وفيما احتوته قصة آدم وإبليس في القرآن من التنويه بخلق الله تعالى آدم بيده ومن نفخه فيه من روحه ومن أمره الملائكة بالسجود له تكريما تسجيل لما اختصه الله من كرامة عظمى كما هو المتبادر . وهذه الكرامة تشمل بني آدم بطبيعة الحال . وفي قصة خلق آدم في سورة البقرة تدعيم لذلك حيث جاء في بعض آياتها : { وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون30 وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين31 قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم32 قال يا آدم أأنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون33 } وهذا التدعيم منطو كذلك في آية الإسراء هذه : { ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا70 } ولعل من هذا التكريم أو من مظاهره تفوق بني آدم على سائر الحيوانات بمواهبهم العقلية والنطقية وقابليتهم للتكليف واختيار الكسب والتصرف ، وجعلهم بذلك أهلا للتكليف والجزاء الأخروي مع مماثلتهم لهم في معظم مظاهر الحياة حتى مع ملاحظة ما يقوله علماء الحياة من أن تميز الإنسان عن سائر الحيوان هو نتيجة تطور طبيعي حتى يمكن أن يقال : إن هذا التطور الذي تمثل في الإنسان هو مظهر من مظاهر حكمة الله وإرادته وتكريمه . وأعظم بتسجيل كتاب الله المجيد لكرامة بني آدم وخلافته في الأرض فخرا وشرفا يوجبان عليهم التسامي عن العجماوات في تصرفهم وسلوكهم وأخلاقهم في الحياة وقيامهم بواجباتهم قياما تاما نحو الله وخلقه .

هذا ، ولقد ألقى صادق العظم أحد أساتذة الجامعة الأميركية البيروتية في أحد أندية بيروت في أواسط سنة 1385 هجرية وأواخر سنة 1965 ميلادية محاضرة بعنوان [ مأساة إبليس ] فيها كثير من التمحل والسفسطة والأخطاء والتناقض رغم كونه ينطلق من العبارات القرآنية للقصة وغيرها مما يفيد أنه مؤمن بالقرآن . ومن جملة ما جاء في المحاضرة : أن إبليس الذي كان كبير الملائكة وجد نفسه أمام أمر وواجب . فالله يأمره بالسجود لآدم ، وهو يعرف أنه لا يجوز السجود لغير الله ، فتمرد على أمر الله مفضلا التمسك بواجب حصر السجود له وحده فكانت مأساته وكان ضحية لتناقض الله عز وجل ، وقد ناقش المحاضر بعض المفسرين والباحثين قبله الذين قالوا : إن السجود الذي أمر به سجود تكريم وليس سجود عبادة ، ولكنه أصر على القول : إنه ليس له في القرآن إلا معنى واحد وهو سجود عبادة ، ولكنه أصر على القول : إنه ليس له في القرآن إلا معنى واحد وهو سجود عبادة . رغم ما في القرآن من آيات طويلة لأولئك القائلين والتي تلزم المحاضر إلزاما لا فكاك له منه ؛ لأنه كما قلنا ينطلق من العبارات القرآنية للقصة وغيرها . فقد جاء في صيغة من صيغ القصة في سورة الإسراء عن لسان إبليس : { قال أأسجد لمن خلقت طينا61 قال أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا62 } وقد حكى القرآن سجود أبوي يوسف وإخوته له في سورة يوسف : { ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا وقال يا آبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا . . } [ 100 ] ولا يمكن لأي كان أن يزعم أن سجودهم ليوسف كان سجود عبادة من دون الله ويتصف بإشراكه مع الله فيه . . . وتغافل المحاضر عن صراحة حكم الله في موقف إبليس الذي حكاه القرآن ، وهو أنه كان به كافرا متكبرا وإنه استحق على هذا الموقف اللعنة المؤبدة والعار . كما جاء في الآيات [ 76-85 ] من هذه السورة وغيرها . وهو ملزم بهذا الحكم إلزاما لا فكاك له منه لأنه ينطلق من العبارة القرآنية . ولقد تغافل المحاضر تغافلا عجيبا عن أن القرآن يدور جملة وتفصيلا على الدعوة إلى عبادة الله وحده ومحاربة كل نوع من أنواع الشرك به وعبادة غيره والسجود لغيره بأي صورة وتأويل وعمل ، وأن الله يتنزه والحالة هذه عن أن يأمر الملائكة وإبليس أن يسجدوا سجود عبادة وشرك لغيره . وعن كون إطاعة الملائكة لأمره بالسجود لآدم سجود عبادة تجعلهم مشركين وهم الذين ينزههم القرآن عن الشرك ويقرر كونهم دائمي العبادة والتسبيح والتقديس له ، وعن أنه بدعواه يقف موقفا فيه كل السخف ؛ إذ يجعل إبليس أشد حرصا على التمسك بواجب توحيد الله من الله نفسه ! ويجعله مؤمنا موحدا ضحى بنفسه في سبيل عقيدته ! رغما عن نصوص القرآن ! وتغافل كذلك عن ما انطوى في القصة من هدف تذكير سامعي القرآن الذين كانوا يعرفونها بما فيها من عبرة وعظة بسبيل حملهم على عدم الاندفاع بالسير في طريق إبليس المتمرد على أمر الله : { وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا50 } [ الكهف ] وعلى السير في طريق الملائكة عباد الله المخلصين الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون .

ولقد رددنا عليه ردا قلنا فيما قلناه : ( إنه ليس هناك ما يصح أن يكون محل نقاش في هذه القصة ، فالقصة بالصيغة التي ورد بها في القرآن فريدة لم ترد في غيره ، وهي عند المسلمين من المغيبات التي يجب عليهم الإيمان بها ؛ لأنها وردت في القرآن مع أخذها على أنها ليست من المحكمات التي هي أم الكتاب ، وإنما هي من المتشابهات التي لا يعلم تأويلها إلا الله . وأن ورودها في القرآن بالأسلوب الذي وردت فيه وتكررها سبع مرات قد استهدف الموعظة والتذكير لأناس يعرفون مركز كل من الملائكة وإبليس من الله تعالى ويعترفون بالله كالخالق المدبر للأكوان المحيط بكل شيء علما وقدرة . وإن المحاضر أمام سؤال يجب أن يجيب عليه وهو : هل هو مؤمن بالقرآن وبالقصة الغيبية التي وردت فيه ؟ فإن كان جوابه إيجابا فإنه يستتبع أن يؤمن بما أخبر الله به من حكمه في هذه القصة ، وهو أن إبليس امتنع عن تنفيذ أمر الله واستحق بذلك لعنته في الدنيا وعذابه في الآخرة كما يستتبع تنزيه الله بأن يأمر بالسجود لغيره سجود عبادة وتنزيه الملائكة عن ذلك . وفي هذه الحالة يكون النقاش في مدى امتناع إبليس عن السجود وتبريره وتخريجه والقول : إن ما سجل عليه من لعنة وكفر وطرد في غير محله إلا أن يكون من باب الجدل مع الله وتوجيه اللوم عليه سبحانه على حكمه ، واعتبار هذا الحكم جائرا وهذا لا يكون من مؤمن فضلا عن ما في رأيه في ذلك من مفارقة وعدم انطباق مع مدى العبارات والأهداف القرآنية ، وإن كان الجواب سلبا فيصبح النقاش من المحاضر في قصة غيبية لم ترد في غير القرآن وليس هو مؤمنا بها أصلا غير ذي موضوع ؛ لأنه لا يكون لهذه القصة في ذهنه حقيقة أو أصل إلا أن يكون من باب ما يعمد إليه بعض سخفاء المبشرين من المماحكات الكلامية التي لا تثبت على نقد ورد وتفنيد ، ويكون في ذلك في هذه الحالة تنطع وسوء أدب وذوق بالنسبة للعقائد الإسلامية برغم أنه ليس فيها ما يضير هذه العقائد .

وقد رأينا أن نسجل هذا الحديث في هذا المقام لما له من جملة بقصة آدم وإبليس ولما فيه من مواضع العبر لمن يتصدى للجدال في العبارات القرآنية تعسفا وبدون علم ودراية فيه .