روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{وَجَآءُوٓ أَبَاهُمۡ عِشَآءٗ يَبۡكُونَ} (16)

{ وَجَاءوا أَبَاهُمْ عِشَاء } أي في ذلك الوقت . وهو كماقال الراغب من صلاة المغرب إلى العتمة والعشاآن : المغرب . والعتمة .

وعن الحسن أنه قرأ عشياً بضم العين وفتح الشين وتشديد الياء منوناً وهو تصغير عشى وهو من زوال الشمس إلى الصباح ، وعنه أنه قرأ عشى بالضم والقصر كدجى فنصبه على الحال وهو جمع أعشى عند بعض وعاش عند آخرين ، وأصله عشاة كماش ومشاة فحذفت الهاء تخفيفاً ، وأورد عليهما بأنه لا جواز لمثل هذا الحذف وأنه لا يجمع أفعل فعلاء على فعل بضم الفاء وفتح العين بل فعل بسكون العين ، ولذا قيل : كان أصله عشوا فنقلت حركة الواو إلى ما قبلها لكونه حرفاً صحيحاً ساكاً ثم حذفت بعد قلبها ألفاً لالتقاء الساكنين وإن قدر ما بكوا به في ذلك اليوم لا يعشو منه الإنسان ؛ وأجيب عن هذا بأن المقصود المبالغة في شدة البكاء والنحيب لا حقيقته أي كان يضعف بصرهم لكثرة البكاء ، وقيل : هو جمع عشوة مثلث العين وهي ركوب أمر على غير بصيرة يقال : أوطأه عشوة أي أمراً ملتبساً يوقعه في حيرة وبلية فيكون تأكيداً لكذبهم وهو تمييز أو مفعول له ، وجوز أن يكون جمع عشوة بالضم بمعنى شعلة النار عبارة عن سرعتهم لابتهاجهم بما فعلوا من العظيمة وافتعلوا من( {[345]} ) العضيهة ، وجوز أن يكون { عشاءاً } في قراءة الجمهور جمع عاش مثل راع ورعاء ويكون نصبه على الحال ، والظاهر الأول ، وإنما جاءوا عشاء إما لأنهم لم يصلوا من مكانهم إلا في ذلك الوقت ، وإما ليكونوا أقدر على الاعتذار لمكان الظلمة التي يرتفع فيها الحياء ، ولذا قيل : لا تطلب الحاجة بالليل فإن الحياء في العينين ولا تعتذر في النهار من ذنب فتلجلج في الاعتذار وهل جاءوا في عشاء اليوم الذي ذهبوا فيه أو في عشار يوم آخر ؟ ظاهر كلام بعضهم الأول ، وذهب بعضهم إلى الثاني بناءاً على ما روي أنه عليه السلام مكث في الجب ثلاثة أيام وكان إخوته يرعون حواليه وكان يهوذا يأتيه بالطعام .

وفي الكلام على ما في البحر حذف والتقدير { يَشْعُرُونَ وَجَاءوا أَبَاهُمْ } دون يوسف { عِشَاء يَبْكُونَ } أي متباكين أي مظهرين البكاء بتكلف لأنه لم يكن عن جزن لكنه يشبهه ، وكثيراً ما يفعل بعض الكذابين كذلك ، أخرج ابن المنذر عن الشعبي قال : جاءت امرأة إلى شريح تخاصم في شيء فجعلت تبكي فقالوا : يا أيا أمية أما تراها تبكي ؟ا فقال : قد جاء إخوة يوسف أباهم عشاءاً يبكون ، وقال الأعمش : لا يصدق باك بعد إخوة يوسف ، وفي بعض الآثار أن يعقوب عليه السلام لما سمع بكاءهم قال : ما بالكم أجري في الغنم شيء ؟ قالوا : لا قال : فما أصابكم وأين يوسف ؟ .

( ومن باب الإشارة ) :{ وَجَاءوا أَبَاهُمْ عِشَاء يَبْكُونَ } [ يوسف : 16 ] قيل : إن ذلك كان بكاء فرح بظفرهم بمقصودهم لكنهم أظهروا أنه بكاء حزن على فقد يوسف عليه السلام ، وقيل : لم يكن بكاءً حقيقة وإنما هو تباك من غير عبرة ؛ وجاؤا عشاء ليكونوا أجرأ في الظلمة على الاعتذار أو ليدلسوا على أبيهم ويوهموه أن ذلك بكاءً حقيقة لا تباك فإنهم لو جاؤا ضحى لافتضحوا :

إذا اشتبكت دموع في خدود *** تبين من بكى ممن تباكى


[345]:- البهتان اهـ منه.