الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{وَجَآءُوٓ أَبَاهُمۡ عِشَآءٗ يَبۡكُونَ} (16)

فيه مسألتان :

الأولى : قوله تعالى : " وجاؤوا أباهم عشاء " أي ليلا ، وهو ظرف يكون في موضع الحال ، وإنما جاؤوا عشاء ليكونوا أقدر على الاعتذار في الظلمة ، ولذا قيل : لا تطلب الحاجة بالليل ، فإن الحياء في العينين ، ولا تعتذر بالنهار من ذنب فتتلجلج في الاعتذار ، فروي أن يعقوب عليه السلام لما سمع بكاءهم قال : ما بكم ؟ أجرى في الغنم شيء ؟ قالوا : لا . قال : فأين يوسف ؟ قالوا : ذهبنا نستبق فأكله الذئب ، فبكى وصاح وقال : أين قميصه ؟ على ما يأتي بيانه إن شاء الله{[8987]} . وقال السدي وابن حبان : إنه لما قالوا أكله الذئب خر مغشيا عليه ، فأفاضوا عليه الماء فلم يتحرك ، ونادوه فلم يجب ، قال وهب : ولقد وضع يهوذا يده على مخارج نفس يعقوب فلم يحس بنفس ، ولم يتحرك له عرق ، فقال لهم يهوذا : ويل لنا من ديان يوم الدين ضيعنا أخانا ، وقتلنا أبانا ، فلم يفق يعقوب إلا ببرد السحر ، فأفاق ورأسه في حجر روبيل ، فقال : يا روبيل ألم آتمنك على ولدي ؟ ألم أعهد إليك عهدا ؟ فقال : يا أبت كف عني بكاءك أخبرك ، فكف يعقوب بكاءه فقال : يا أبت " إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب " .

الثانية : قال علماؤنا : هذه الآية دليل على أن بكاء المرء لا يدل على صدق مقاله ، لاحتمال أن يكون تصنعا ، فمن الخلق من يقدر على ذلك ، ومنهم من لا يقدر . وقد قيل : إن الدمع المصنوع لا يخفى ، كما قال حكيم :

إذا اشتبكت دموعٌ في خدود *** تبين من بَكَى ممن تَبَاكَى


[8987]:من ع.