روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{وَجَعَلۡنَا فِيهَا جَنَّـٰتٖ مِّن نَّخِيلٖ وَأَعۡنَٰبٖ وَفَجَّرۡنَا فِيهَا مِنَ ٱلۡعُيُونِ} (34)

{ وَجَعَلْنَا فِيهَا جنات مّن نَّخِيلٍ } جمع نخل كعبيد جمع عبد كما ذهب إليه أكثر الأئمة وصرح به في القاموس ، وقيل اسم جمع ، وقال الجوهري : النخل والنخيل بمعنى واحد وعلى الأول المعول { وَأَعْنَابٍ } جمع عنب ويقال على الكرم نفسه وعلى ثمرته كما قال الراغب : ولعله مشترك فيهما ، وقيل حقيقة في الثمرة مجاز في الشجرة ، وأياً ما كان فالمراد الأول بقرينة العطف على النخيل ، وجمعا دون الحب قيل لتدل الجمعية على تعدد الأنواع أي من أنواع النخل وأنواع العنب وذلك لأن النخل والعنب اسمان لنوعين فكل منهما مقول على افراد حقيقة واحدة فلا يدلان على اختلاف ما تحتهما وتعدد أنواعه إلا إذا عبر عنهما بلفظ الجمع بخلاف الحب فإنه اسم جنس وهو يشعر باختلاف ما تحته لأنه المقول على كثرة مختلفة الحقائق قولاً ذاتياً فلا يحتاج في الدلالة على الاختلاف إلى الجمعية ، وقولهم جمع العالم في قوله تعالى : { الحمد للَّهِ رَبّ العالمين } [ الفاتحة : 2 ] وهو اسم جنس ليشمل ما تحته من الأجناس لا ينافي ذلك قيل لأن المراد ليشمل شمولاً ظاهراً متعيناً وان حصل الاشعار بدونه ، وقيل جمعاً للدلالة على مزيد النعمة ، وأما الحب ففيه قوام البدن وهو حاصل بالجنس .

وامتن عز وجل في معرض الاستدلال على أمر الحشر بجعل الجنات من النخيل والأعناب المراد بها الأشجار ولم يمتن سبحانه وتعالى بجعل ثمرات تلك الأشجار من التمر والعنب كما امتن جل جلاله بإخراج الحب أعظاماً للمنة لتضمن ذلك الامتنان بالثمار وغيرها من منافع تلك الأشجار أنفسها بسائر أجزائها للإنسان نفسه بلا واسطة لاسيما النخيل ولا دلالة في الكلام على حصر ثمر الجعل بأكل الثمرة ، وثمرة التنصيص على ذلك من بين المنافع ظاهرة وهذا بخلاف أشجار الحبوب فإنها ليست بهذه المثابة ولذا غير الأسلوب ولم يعامل ثمر ذلك معاملة الحبوب وكلام البيضاوي عليه الرحمة ظاهر في أن المراد بالأعناب الثمار المعروفة لا الكروم وعلل ذكر النخيل دون ثمارها مع أنه الأوفق بما قبل وما بعد باختصاصها بمزيد النفع وآثار الصنع وتفسير الأعناب بالثمار دون الكروم بعيد عندي لمكان العطف مع أن الجار والمجرور في موضع الصفة لجنات ، والمعروف كونها من أشجار لا من ثمار .

قال الراغب : الجنة كل بستان ذي شجر يستر بأشجاره الأرض ، وقد تسمى الأشجار الساترة جنة وعلى ذلك حمل قوله

: من النواضح تسقى جنة سحقا *** على أن في الآية بعد ما يؤيد إرادة الثمار فتدبر .

{ وَفَجَّرْنَا فِيهَا } أي شققنا في الأرض . وقرأ جناح بن حبيش { *فجرنا } بالتخفيف والمعنى واحد بيد أن المشدد دال على المبالغة والتكثير { فِيهَا مِنَ العيون } أي شيئاً من العيون على أن الجار والمجرور في موضع الصفة لمحذوف ، ومن بيانية وجوز كونها تبعيضية وليس بذاك ، وقيل المفعول محذوف و { مِنَ العيون } متعلق بفجر ومن ابتدائية على معنى فجرنا من المنابع ما ينتفع به من الماء ، وذهب الأخفش إلى زيادة من وجعل العيون مفعول فجرنا لأنه يرى جواز زيادتها في الإثبات مع تعريف مجرورها .

{ لِيَأْكُلُواْ مِن ثَمَرِهِ } متعلق بجعلنا وتأخيره عن تفجير العيون لأنه من مبادئ الثمر أي وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب ورتبنا مبادئ ثمرها ليأكلوا ، وضمير ثمره عائد على المجعول وهو { الجنات } [ يس : 34 ] ولذا أفرد وذكر ولم يقل من ثمرها أي الجنات أو من ثمرهما أي النخيل والأعناب ، ومثله ما قيل عائد على المذكور والضمير قد يجري مجرى اسم الإشارة كما في قول رؤبة

: فيها خطوط من سواد وبلق *** كأنه في الجلد توليع البهق

فإنه أراد كما قال لأبي عبيدة وقد ساله كأنه ذاك ، وقيل عائد على الماء لدلالة العيون عليه أو لكون الكلام على حذف مضاف أي ماء العيون ، وقيل على النخيل واكتفى به للعلم باشتراك الأعناب معه في ذلك ، وقيل على التفجير المفهوم من { *فجرنا } [ يس : 34 ] والمراد بثمره فوائده كما تقول ثمرة التجارة الريح أو هو ظاهره والإضافة لأدنى ملابسة والكل كما ترى ، وجوز أن يكون الضمير له عز وجل وإضافة الثمر إليه تعالى لأنه سبحانه خالقه فكأنه قيل : ليأكلوا مما خلقه الله تعالى من الثمر . وكان الظاهر من ثمرنا لضمير العظمة على قياس ما تقدم إلا أنه التفت من التكلم إلى الغيبة لأن الأكل والتعيش مما يشغل عن الله تعالى فيناسب الغيبة فالالتفات في موقعه .

وزعم بعضهم أن هذا ليس من مظانه لأنه أولى بضمير الواحد المطاع لأنه المقصود بالإحياء والجعل والتفجير وقد أسندت إليه . ورد بأن ما سبق أفخم لأنها أفعال عامة النفع ظاهرة في كمال القدرة والثمر أحط مرتبة من الحب ولذا لم يورد على سبيل الاختصاص فلا يستحق ذلك التفخيم كيف وقد جعل بعضهم الثمر خلق الله تعالى وكماله بفعل الآدمي ، وبما تقدم يستغني عما ذكر . وقرأ طلحة . وابن وثاب . وحمزة . والكسائي { كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ } بضمتين وهي لغة فيه أو هو جمع ثمار .

وقرأ الأعمش { مِن ثَمَرِهِ } بضم فسكون { وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ } { مَا } موصولة في محل جر عطف على { ثَمَرِهِ } وجعله في محل نصب عطفاً على محل { مِن ثَمَرِهِ } خلاف الظاهر أي وليأكلوا من الذي عملوه أو صنعوه بقواهم ، والمراد به ما يتخذ من الثمر كالعصير والدبس وغيرهما ، وقال الزمخشري : أي من الذي عملته أيديهم بالغرس والسقي والآبار وليس بذاك ، وجوز أن تكون ما نكرة موصوفة أي ومن شيء عملته أيديهم والأول أظهر ، وقيل : ما نافية وضمير { عَمِلَتْهُ } راجع إلى الثمر والجملة في موضع الحال ، والمراد من نغي عمل أيديهم إياه أنه بخلق الله تعالى لا بفعلهم ولا تقول المشايخ بالتوليد ، وروي القول بأنها نافية عن ابن عباس . والضحاك ، وظاهر كلام الحبر أن الضمير راجع إلى شيئاً الموصوف المحذوف والجملة حال منه ، فقد روى سعيد بن منصور .

وابن المنذر عنه أنه قال : وجدوه معمولاً لم تعمله أيديهم يعني الفرات ودجلة ونهر بلخ وأشباهها وفيه بعد . وأيد القول بالموصولية بقراءة طلحة . وعيسى . وحمزة . والكسائي . وأبي بكر { وَمَا عَلَّمْتُمْ } بلا هاء ، ووجه التأييد أن الموصول مع الصلة كاسم واحد فيحسن معه لاستطالته ولاقتضائه إياه ودلالته عليه يكون كالمذكور ، وتقدير اسم ظاهر غير ظاهر ، وقال الطيبي : جعلها نافية أولى من جعلها موصولة لئلا يوهم استقلالهم بالعمل لأن ذكر الأيدي للتأكيد في هذا المقام كما في قوله تعالى : { أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أنعاما } [ يس : 71 ] لأن التركيب من باب أخذته بيدي ورأيته بعيني وحينئذ لا يناسب أن يكون قوله تعالى : { أحييناها } [ يس : 33 ] الخ تفسيراً لكون الأرض الميتة آية . وتعقبه في الكشف بأنه ليس بشيء لأن العمل من العباد بمعن الكسب وقد جاء { بما قدمت أيديكم } [ آل عمران : 182 ] و { بما قدمت يداك } [ الحج : 10 ] فهذا التأكيد دافع للإيهام انتهى فلا تغفل .

وجوز على هذه القراءة كون ما مصدرية أي وعمل أيديهم ويراد بالمصدر اسم المفعول أي معمول أيديهم فيعود إلى معنى الموصولة ولا يخفى ما فيه { أَفَلاَ يَشْكُرُونَ } إنكاراً واستقباح لعدم شركهم للمنعم بالنعم المعدودة بالتوحيد والعبادة ، والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي أيرون هذه النعم أو أيتنعمون بها فلا يشكرون المنعم بها .