نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{وَجَعَلۡنَا فِيهَا جَنَّـٰتٖ مِّن نَّخِيلٖ وَأَعۡنَٰبٖ وَفَجَّرۡنَا فِيهَا مِنَ ٱلۡعُيُونِ} (34)

ولما ذكر سبحانه ما في الزروع وما لا ساق له من النعمة والقدرة ، ودل السياق فيه على الحصر ، أتبعه ما بين أن المراد التعظيم لا الحصر الحقيقي بإظهار المنة في غيره من الأشجار الكبار والصغار ذات الأقوات والفواكه ، فقال دالاً على عظمه بمظهر العظمة : { وجعلنا } أي : بما لنا من العظمة { فيها } أي :الأرض { جنات } أي : بساتين تستر داخلها بما فيها من الأشجار الملتفة . ولما كان النخل - مع ما فيه من النفع - زينة دائماً بكونه لا يسقط ورقه ، قدمه وسماه باسمه فقال : { من نخيل } وفيه أيضاً إشارة إلى أنه نفع كله خشبه وليفه وشعبه وخوصه وعراجينه وثمره طلعاً وجماراً وبسراً ورطباً وتمراً ؛ ولذلك - والله أعلم - أتى فيه بصيغة جمع الكثرة كالعيون ، ولما كان الكرم لا تكون له زينة بأوراق تجن إلا ما كان العنب قائماً قال : { وأعناب } ودل بالجمع فيهما دون الحب على كثرة اختلاف الأصناف في النوع الواحد الموجب للتفاوت الظاهر في القدر والطعم وغير ذلك .

ولما كانت الجنات لا تصلح إلا بالماء ، وكان من طبع الماء الغور في التراب والرسوب بشدة السريان إلى أسفل ، فكان فورانه إلى جهة العلو أمراً باهراً للعقل لا يكون إلا بقسر قاسر حكيم قال : { وفجرنا } أي : فتحنا تفتيحاً عظيماً { فيها } ودل على تناهي عظمته وتعاليها عن أن يحاط بشيء منها بالتبعيض بقوله : { من العيون * } والتعريف هنا يدل على أن الأرض مركبة على الماء ، فكل موضع منها صالح لأن ينفجر منه الماء ، ولكن الله يمنعه عن بعض المواضع بخلاف الأشجار ليس منها شيء غالباً على الأرض ، ففي ذلك تذكير بالنعمة في حبس الماء عن بعض الأرض لتكون موضعاً للسكن ، ولو شاء لفجر الأرض كلها عيوناً كما فعل بقوم نوح عليه السلام فأغرق الأرض كلها .