قوله : { يومئذٍ يوفيهم الله دينهم } استئناف بياني لأن ذكر شهادة الأعضاء يثير سؤالاً عن آثار تلك الشهادة فيجاب بأن أثرها أن يجازيهم الله على ما شهدت به أعضاؤهم عليهم . فدينهم جزاؤهم كما في قوله : { ملك يوم الدين } [ الفاتحة : 4 ] .
و { الحقَّ } نعت للدين ، أي الجزاء العادل الذي لا ظلم فيه فوصف بالمصدر للمبالغة .
وقوله : { ويعلمون أن الله هو الحق المبين } أي ينكشف للناس أن الله الحق . ووصف الله بأنه { الحق } وصف بالمصدر لإفادة تحقق اتصافه بالحق ، كقول الخنساء :
ترتع ما رتعت حتى إذا ادَّكرت *** فإنما هي إقبال وإدبار
وصفة الله بأنه { الحق } بمعنيين :
أولهما : بمعنى الثابت الحاق ، وذلك لأن وجوده واجب فذاته حق متحققة لم يسبق عليها عدم ولا انتفاء فلا يقبل إمكان العدم .
وعلى هذا المعنى في اسمه تعالى : { الحق } اقتصر الغزالي في « شرح الأسماء الحسنى » .
وثانيهما : معنى أنه ذو الحق ، أي العدل وهو الذي يناسب وقوع الوصف بعد قوله : { دينهم الحق } . وبه فسر صاحب « الكشاف » فيحتمل أنه أراد تفسير معنى الحق هنا ، أي وصف الله بالمصدر وليس مراده تفسيرَ الاسم . ويحتمل إرادة الإخبار عن الله بأنه صاحب هذا الاسم وهذا الذي درج عليه ابن برّجان الإشبيلي{[285]} في كتابه « شرح الأسماء الحسنى » والقرطبي في « التفسير » .
و { الحق } من أسماء الله الحسنى . ولما وصف بالمصدر زيد وصف المصدر ب { المبين } . والمبين : اسم فاعل من أبان الذي يستعمل متعدياً بمعنى أظهر على أصل معنى إفادة الهمزة التعدية ، ويستعمل بمعنى بان ، أي ظهر على اعتبار الهمزة زائدة ، فلك أن تجعله وصفاً ل { الحق } بمعنى العدل كما صرح به في « الكشاف » ، أي الحق الواضح . ولك أن تجعله وصفاً لله تعالى بمعنى أن الله مبيَّن وهاد . وإلى هذا نحا القرطبي وابن برَّجان ، فقد أثبتا في عداد أسمائه تعالى اسم { المبين } .
فإن كان وصف الله ب { الحق } بالمعنى المصدري فالحصر المستفاد من ضمير الفصل ادعائي لعدم الاعداد ب { الحق } الذي يصدر من غيره من الحاكمين لأنه وإن يصادف المحز فهو مع ذلك معرض للزوال وللتقصير وللخطأ فكأنه ليس بحق أو ليس بمبين . وإن كان الخبر عن الله بأنه { الحق } بالمعنى الاسمي لله تعالى فالحصر حقيقي إذ ليس اسم الحق مسمى به غير ذات الله تعالى ، فالمعنى : أن الله هو صاحب هذا الاسم كقوله تعالى : { هل تعلم له سميّاً } [ مريم : 65 ] . وعلى هذين الوجهين يجري الكلام في وصَفه تعالى ب { المبين } .
ومعنى كونهم يعلمون أن الله هو الحق المبين : أنهم يتحققون ذلك يومئذ بعلم قطعي لا يقبل الخفاء ولا التردد وإن كانوا عالمين ذلك من قبل لأن الكلام جار في موعظة المؤمنين ؛ ولكن نزل علمهم المحتاج للنظر والمعرض للخفاء والغفلة منزلة عدم العلم .
ويجوز أن يكون المراد ب { الذين يرمون المحصنات الغافلات } خصوص عبد الله بن أبي بن سلول ومن يتصل به من المنافقين المبطنين الكفر بله الإصرار على ذنب الإفك إذ لا توبة لهم فهم مستمرون على الإفك فيما بينهم لأنه زُين عند أنفسهم ، فلم يروموا الإقلاع عنه في بواطنهم مع علمهم بأنه اختلاق منهم ؛ لكنهم لخبث طواياهم يجعلون الشك الذي خالج أنفسهم بمنزلة اليقين فهم ملعونون عند الله في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم في الآخرة ويعلمون أن الله هو الحق المبين فيما كذبهم فيه من حديث الإفك وقد كانوا من قبل مبطنين الشرك مع الله فجاعلين الحق ثابتاً لأصنامهم ، فالقصر حيئنذ إضافي ، أي يعلمون أن الله وحده دون أصنامهم .
ويجوز أن يكون المراد ب { الذين يرمون المحصنات الغافلات } عبد الله بن أبي بن سلول وحده فعبر عنه بلفظ الجمع لقصد إخفاء اسمه تعريضاً به ، كما في قوله تعالى : { الذين قال لهم الناس } [ آل عمران : 173 ] وقول النبي صلى الله عليه وسلم " ما بال أقوام يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله " .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{يومئذ} في الآخرة {يوفيهم الله دينهم الحق} يعني: حسابهم بالعدل لا يظلمون {ويعلمون أن الله هو الحق المبين} يعني: العدل البيّن.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره:"يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ ألْسِنَتُهُمْ وأيْدِيهِمْ وأرْجُلُهُمْ بِمَا كانُوا يَعْمَلُونَ" يوفيهم الله حسابهم وجزاءهم الحقّ على أعمالهم. والدّين في هذا الموضع: الحساب والجزاء...
وقوله: "وَيَعْلَمُونَ أنّ اللّهَ هُوَ الحَقّ المُبِينُ "يقول: ويعلمون يومئذٍ أن الله هو الحقّ الذي يبين لهم حقائق ما كان يعدهم في الدنيا من العذاب، ويزول حينئذٍ الشكّ فيه عن أهل النفاق الذين كانوا فيما كان يَعِدُهم في الدنيا يمترون.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
والحق: -بالنصب- صفة للدين وهو الجزاء، -وبالرفع- صفة لله.
ولو فليت القرآن كله وفتشت عما أوعد به العصاة لم تر الله تعالى قد غلظ في شيء تغليظه في إفك عائشة رضوان الله عليها، ولا أنزل من الآيات القوارع، المشحونة بالوعيد الشديد والعتاب البليغ والزجر العنيف، واستعظام ما ركب من ذلك، واستفظاع ما أقدم عليه، ما أنزل فيه على طرق مختلفة وأساليب مفتنة. كل واحد منها كاف في بابه، ولو لم ينزل إلاّ هذه الثلاث لكفى بها، حيث جعل القذفة ملعونين في الدارين جميعاً، وتوعدهم بالعذاب العظيم في الآخرة، وبأن ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم تشهد عليهم بما أفكوا وبهتوا، وأنه يوفيهم جزاءهم الحق الواجب الذي هم أهله، حتى يعلموا عند ذلك {أَنَّ الله هُوَ الحق المبين} فأوجز في ذلك وأشبع، وفصل وأجمل، وأكد وكرّر، وجاء بما لم يقع في وعيد المشركين عبدة الأوثان إلاّ ما هو دونه في الفظاعة، وما ذاك إلا لأمر...
ولقد برَّأ الله تعالى أربعة بأربعة: برأ يوسف بلسان الشاهد {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مّنْ أَهْلِهَا} [يوسف: 26]. وبرأ موسى من قول اليهود فيه بالحجر الذي ذهب بثوبه. وبرّأ مريم بإنطاق ولدها حين نادى من حجرها: إني عبد الله. وبرَّأ عائشة بهذه الآيات العظام في كتابه المعجز المتلوّ على وجه الدهر، مثل هذه التبرئة بهذه المبالغات. فانظر، كم بينها وبين تبرئة أولئك؟ وما ذاك إلاّ لإظهار علوّ منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتنبيه على إنافة محلّ سيد ولد آدم، وخيرة الأوّلين والآخرين، وحجة الله على العالمين. ومن أراد أن يتحقق عظمة شأنه صلى الله عليه وسلم وتقدّم قدمه وإحرازه لقصب السبق دون كل سابق، فليتلق ذلك من آيات الإفك، وليتأمّل كيف غضب الله في حرمته، وكيف بالغ في نفي التهمة عن حجابه...فإن قلت: ما معنى قوله: {هُوَ الحق المبين} قلت: معناه: ذو الحق البين، أي: العادل الظاهر العدل، الذي لا ظلم في حكمه، والمحقّ الذي لا يوصف بباطل. ومن هذه صفته لم تسقط عنده إساءة مسيء، ولا إحسان محسن، فحق مثله أن يتقى ويجتنب محارمه.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
{وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} أي: وعده ووعيده وحسابه هو العدل، الذي لا جور فيه.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{يومئذ} أي إذ تشهد عليهم هذه الجوارح {يوفيهم الله} أي المحيط بكل شيء علماً وقدرة وله الكمال كله {دينهم} أي جزاءهم {الحق} أي الذي يظهر لكل أحد من أهل ذلك المجمع العظيم أنهم يستحقونه، فلا يقدر أحد على نوع طعن فيه {ويعلمون} أي إذ ذاك، لانقطاع الأسباب، ورفع كل حجاب {أن الله} أي الذي له العظمة المطلقة، فلا كفوء له {هو} أي وحده {الحق} أي الثابت أمره فلا أمر لأحد سواه، {المبين} الذي لا أوضح من شأنه في ألوهيته وعلمه وقدرته وتفرده بجميع صفات الكمال، وتنزهه عن جميع سمات النقص...
تيسير التفسير لاطفيش 1332 هـ :
{أنَّ اللهَ هُو الحق المُبينُ} الظاهر بظهور حكمه وأفعاله وأقواله، أو المظهر ما خفى من الأحكام والحكم.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{ويعلمون أن الله هو الحق المبين} أي ينكشف للناس أن الله الحق. ووصف الله بأنه {الحق} وصف بالمصدر لإفادة تحقق اتصافه بالحق...
وصفة الله بأنه {الحق} بمعنيين:
أولهما: بمعنى الثابت الحاق، وذلك لأن وجوده واجب فذاته حق متحققة لم يسبق عليها عدم ولا انتفاء فلا يقبل إمكان العدم...
وثانيهما: معنى أنه ذو الحق، أي العدل وهو الذي يناسب وقوع الوصف بعد قوله: {دينهم الحق}...
و {الحق} من أسماء الله الحسنى. ولما وصف بالمصدر زيد وصف المصدر ب {المبين}. والمبين: اسم فاعل من أبان الذي يستعمل متعدياً بمعنى أظهر على أصل معنى إفادة الهمزة التعدية، ويستعمل بمعنى بان، أي ظهر على اعتبار الهمزة زائدة، فلك أن تجعله وصفاً ل {الحق} بمعنى العدل كما صرح به في « الكشاف»، أي الحق الواضح. ولك أن تجعله وصفاً لله تعالى بمعنى أن الله مبيَّن وهاد. وإلى هذا نحا القرطبي وابن برَّجان، فقد أثبتا في عداد أسمائه تعالى اسم {المبين}...ومعنى كونهم يعلمون أن الله هو الحق المبين: أنهم يتحققون ذلك يومئذ بعلم قطعي لا يقبل الخفاء ولا التردد..
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} فهو الحقيقة المشرقة الثابتة الواضحة التي لا مجال للشك فيها فضلاً عن إنكارها، وهو الذي يؤكد الحق في حسابه للناس كما يؤكده في ما يقرره من حقائق التشريع ومفاهيم العقيدة.. وهناك يعرف الجميع الحق في ذات الله والحق في طبيعة الموقف على مستوى الحساب والمصير.