الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري - الزمخشري  
{يَوۡمَئِذٖ يُوَفِّيهِمُ ٱللَّهُ دِينَهُمُ ٱلۡحَقَّ وَيَعۡلَمُونَ أَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلۡحَقُّ ٱلۡمُبِينُ} (25)

والحق : بالنصب صفة للدين وهو الجزاء ، وبالرفع صفة لله ، ولو فليت القرآن كله وفتشت عما أوعد به العصاة لم تر الله تعالى قد غلظ في شيء تغليظه في إفك عائشة رضوان الله عليها ، ولا أنزل من الآيات القوارع ، المشحونة بالوعيد الشديد والعتاب البليغ والزجر العنيف ، واستعظام ما ركب من ذلك ، واستفظاع ما أقدم عليه ، ما أنزل فيه على طرق مختلفة وأساليب مفتنة . كل واحد منها كاف في بابه ، ولو لم ينزل إلاّ هذه الثلاث لكفى بها ، حيث جعل القذفة ملعونين في الدارين جميعاً ، وتوعدهم بالعذاب العظيم في الآخرة ، وبأن ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم تشهد عليهم بما أفكوا وبهتوا ، وأنه يوفيهم جزاءهم الحق الواجب الذي هم أهله ، حتى يعلموا عند ذلك { أَنَّ الله هُوَ الحق المبين } فأوجز في ذلك وأشبع ، وفصل وأجمل ، وأكد وكرّر ، وجاء بما لم يقع في وعيد المشركين عبدة الأوثان إلاّ ما هو دونه في الفظاعة ، وما ذاك إلا لأمر . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : أنه كان بالبصرة يوم عرفة ، وكان يُسأل عن تفسير القرآن ، حتى سئل عن هذه الآيات فقال : من أذنب ذنباً ثم تاب منه قبلت توبته إلاّ من خاض في أمر عائشة ، وهذه منه مبالغة وتعظيم لأمر الإفك . ولقد برَّأ الله تعالى أربعة بأربعة : برأ يوسف بلسان الشاهد { وَشَهِدَ شَاهِدٌ مّنْ أَهْلِهَا } [ يوسف : 26 ] . وبرأ موسى من قول اليهود فيه بالحجر الذي ذهب بثوبه . وبرّأ مريم بإنطاق ولدها حين نادى من حجرها : إني عبد الله . وبرَّأ عائشة بهذه الآيات العظام في كتابه المعجز المتلوّ على وجه الدهر ، مثل هذه التبرئة بهذه المبالغات . فانظر ، كم بينها وبين تبرئة أولئك ؟ وما ذاك إلاّ لإظهار علوّ منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والتنبيه على إنافة محلّ سيد ولد آدم ، وخيرة الأوّلين والآخرين ، وحجة الله على العالمين . ومن أراد أن يتحقق عظمة شأنه صلى الله عليه وسلم وتقدّم قدمه وإحرازه لقصب السبق دون كل سابق ، فليتلق ذلك من آيات الإفك ، وليتأمّل كيف غضب الله في حرمته ، وكيف بالغ في نفي التهمة عن حجابه .

فإن قلت : إن كانت عائشة هي المرادة فكيف قيل المحصنات ؟ قلت : فيه وجهان ، أحدهما : أن يراد بالمحصنات أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأن يخصصن بأن من قذفهنّ فهذا الوعيد لاحق به ، وإذا أردن عائشة كبراهنّ منزلة وقربة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كانت المرادة أوّلاً ، والثاني : أنها أمّ المؤمنين فجمعت إرادة لها ولبناتها من نساء الأمّة الموصوفات بالإحصان والغفلة والإيمان ، كما قال :

قَدْنِيَ مِنْ نَصْرِ الْخُبَيْبَيْنِ قَدِي ***

أراد عبد الله بن الزبير وأشياعه ، وكان أعداؤه يكنونه بخبيب ابنه ، وكان مضعوفاً ، وكنيته المشهورة أبو بكر ، إلاّ أن هذا في الاسم وذاك في الصفة ،

فإن قلت : ما معنى قوله : { هُوَ الحق المبين } [ النور : 25 ] ؟ قلت : معناه : ذو الحق البين ، أي : العادل الظاهر العدل ، الذي لا ظلم في حكمه ، والمحقّ الذي لا يوصف بباطل . ومن هذه صفته لم تسقط عنده إساءة مسيء ، ولا إحسان محسن ، فحق مثله أن يتقى ويجتنب محارمه .