افتتاح الكلام ب { اعلموا } ونحوه يؤذن بأن ما سيلقى جدير بتوجه الذهن بشراشره إليه ، كما تقدم عند قوله تعالى : { واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه } في سورة [ البقرة : 235 ] وقوله : { واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه } الآية في سورة [ الأنفال : 41 ] .
وهو هنا يشير إلى أن الكلام الذي بُعده مغزى عظيم غير ظاهرِ ، وذلك أنه أريد به تمثيل حال احتياج القلوب المؤمنة إلى ذكر الله بحال الأرض الميتة في الحاجة إلى المطر ، وحاللِ الذكر في تزكية النفوس واستنارتها بحال الغَيث في إحياء الأرض الجدبة . ودل على ذلك قوله بعده : قد بينا لكم الآيات لعلكم تعقلون } ، وإلا فإن إحياء الله الأرض بعد موتها بما يصيبها من المطر لا خفاء فيها فلا يقتضي أن يفتتح الإخبار عنه بمثل { اعلموا } إلاّ لأن فيه دلالة غير مألوفة وهي دلالة التمثيل ، ونظيره قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي مسعود البَدري وقد رآه لَطم وجه عبدٍ له « اعلَمْ أبا مسعود ، اعلَمْ أبا مسعود أن الله أقدر عليك منك على هذا » .
فالجملة بمنزلة التعليل لجملة { ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله } إلى قوله : { فقست قلوبهم } [ الحديد : 16 ] لما تتضمنه تلك من التحريض على الخشوع لذكر الله ، ولكن هذه بمنزلة العلة فَصلت ولم تعطف ، وهذا يقتضي أن تكون مما نزل مع قوله تعالى : { ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم } الآية .
والخطاب في قوله : { اعلموا } للمؤمنين على طريقة الالتفات إقبالاً عليهم للاهتمام .
وقوله : { أن الله يحي الأرض بعد موتها } استعارة تمثيلية مصرّحة ويتضمن تمثيلية مَكْنية بسبب تضمنه تشبيه حال ذِكر الله والقرآن في إصلاح القلوب بحال المطر في إصلاحه الأرض بعد جدبها . وطُوي ذكر الحالة المشبه بها ورُمز إليها بلازمها وهو إسناد إحياء الأرض إلى الله لأن الله يحيي الأرض بعد موتها بسبب المطر كما قال تعالى : { والله أنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها } [ النحل : 65 ] .
والمقصود الإِرشاد إلى وسيلة الإِنابة إلى الله والحث على تعهد النفس بالموعظة ، والتذكير بالإِقبال على القرآن وتدبره وكلامِ الرسول صلى الله عليه وسلم وتعليمه وأن في اللجأ إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم نجاة وفي المفزع إليهما عصمة وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " تركتُ فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا كتابَ الله وسنتي " وقال : " مَثَل ما بَعثني الله به من الهُدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً فكان منها نَقَيّة قبِلت الماء فأنبتت الكلأ والعُشْب ، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناسَ فشربوا وسقَوْا وزرعوا ، وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قِيعانٌ لا تمسك ماء ولا تنبت كلأً ، فذلك مثَل من فَقُهَ في دين الله وَنَفَعه ما بعثني الله به فَعلِم وعلَّم ، ومثلُ من لم يرفع لذلك رأساً ولم يقبَل هدى الله الذي أرسلتُ به " .
وقوله : { قد بينا لكم الآيات لعلكم تعقلون } استئناف بياني لجملة { أن الله يحي الأرض بعد موتها } لأن السامع قولَه : { اعلموا أن الله يحي الأرض بعد موتها } يتطلب معرفة الغرض من هذا الإعلام فيكون قوله : { قد بينا لكم الآيات } جواباً عن تطلبه ، أي أعلمناكم بهذا تبييناً للآيات .
ويفيد بعمومه مُفاد التذييل للآيات السابقة من أول السورة مكيّها ومدنيها لأن الآية وإن كانت مدنيّة فموقعها بعد الآيات النازلة بمكة مراد لله تعالى ، ويدل عليه الأمر بوضعها في موضعها هذا ، ولأن التعريف في الآيات للاستغراق كما هو شأن الجمع المعرّف باللام .
والآيات : الدلائل . والمراد بها : ما يشمل مضمون قوله : { ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد } إلى قوله : { بعد موتها } [ الحديد : 16 ] ، وهو محل ضرب المثل لأن التنظير بحال أهل الكتاب ضرب من التمثيل .
وبيان الآيات يحصل من فصاحة الكلام وبلاغته ووفرة معانيه وتوضيحها ، وكل ذلك حاصل في هذه الآيات كما علمت آنفاً . ومن أوضح البيان التنظير بأحوال المشابهين في حالة التحذير أو التحضيض .
و { لعلكم تعقلون } : رجاء وتعليل ، أي بيّنا لكم لأنكم حالكم كحال من يرجى فهمه ، والبيان علة لفهمه .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره:"اعْلَمُوا "أيها الناس "أنّ اللّهَ يُحْيِي الأرْضَ" الميتة التي لا تنبت شيئا "بَعْدَ مَوْتِها" يعني: بعد دثورها ودروسها، يقول: وكما نحيي هذه الأرض الميتة بعد دروسها، كذلك نهدي الإنسان الضّالّ عن الحقّ إلى الحقّ، فنوفّقه ونسدّده للإيمان حتى يصير مؤمنا من بعد كفره، ومهتديا من بعد ضلاله.
وقوله: "قَدْ بَيّنا لَكُمُ الآيات لَعَلّكُمْ تَعْقِلُونَ" يقول: قد بيّنا لكم الأدلة والحجج لتعقلوا.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{اعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها} ذكر هذا، ليس على أنهم لم يكونوا علموا أن الله هو يحيي الأرض بعد موتها، بل كانوا عالمين بذلك، لكنه ذكر كما ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: {فاعلم أنه لا إله إلا الله} [محمد: 19] أي أشعر قلبك في كل وقت وساعة الربوبية لله تعالى والوحدانية له. فعلى هذا يحتمل قوله: {اعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها} أي أشعروا قلوبكم في كل وقت جعل الألوهية والربوبية لله تعالى وصرف العبادة إليه والتنزيه والتبرئة له مما لا يليق به مما يوصف به الخلق؛ إذ علمتم أنه يحيي الأرض بعد موتها، فاعلموا أنه يمتحنكم بأنواع المحن؛ إذ لا يحتمل إحياء ما ذكر بغير فائدة وتركهم سدى.أو يقول: قد علمتم أن الله هو يحيي الأرض بعد موتها، وأنتم ترغبون في ما أحياه الله، وتصيبون منه، وتجتهدون في نيل ذلك وإصابته، فاجتهدوا في إصابة البركات الدائمة في الحياة الباقية. أو يقول: لما علمتم أنه قادر على إحياء الأرض بعد موتها فاعلموا أنه قادر على البعث، والله أعلم.
وقوله تعالى: {قد بينا لكم الآيات لعلكم تعقلون} قد ذكرنا في ما تقدم أن حرف: لعل من الله تعالى يخرج على الإيجاب لكن يخرج ههنا على الترجي وإطماع العقل للآيات والفهم لها إذا نظروا فيها، وتأملوا أنها آيات من الله تعالى، أو أن يرجع ذلك إلى خاص من الناس لو خرج حرف: لعل للإيجاب دون الترجي، وهم الذين علم الله تعالى أنهم يعقلون أنها آيات، ويؤمنون بها، والله أعلم.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{اعلموا أَنَّ الله يُحْيي الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا} قيل: هذا تمثيل لأثر الذكر في القلوب، وأنه يحييها كما يحيي الغيث الأرض.
{اعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها قد بينا لكم الآيات لعلكم تعقلون} وفيه وجهان؛
(الأول): أنه تمثيل والمعنى أن القلوب التي ماتت بسبب القساوة، فالمواظبة على الذكر سبب لعود حياة الخشوع إليها كما يحيي الله الأرض بالغيث.
(والثاني): أن المراد من قوله: {يحيي الأرض بعد موتها} بعث الأموات فذكر ذلك ترغيبا في الخشوع والخضوع وزجرا عن القساوة.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{يحيي} أي على سبيل التجديد والاستمرار كما تشاهدونه {الأرض} اليابسة بالنبات. ولما كان هذا الوصف ثابتاً دائماً بالفعل وبالقوة أخرى، وكان الجار هنا مقتضياً للتعميم قال: {بعد موتها} من غير ذكر الجارّ وكما أنه يحييها فيخرج بها النبات بعد أن كان قد تفتت وصار تراباً فكذلك يحيي بجمع أجسامهم وإفاضة الأرواح عليها كما فعل بالنبات وكما فعل بالأجسام أول مرة سواء..
ولما انكشف الأمر بهذا غاية الانكشاف، أنتج قوله: {قد بينا} أي على ما لنا من العظمة، ولما كان العرب يفهمون من لسانهم ما لا يفهم غيرهم فكانوا يعرفون -من إعجاز القرآن بكثرة فوائده وجلالة مقاصده ودقة مسالكه وعظمة مداركه، وجزالة تراكيبه ومتانة أساليبه وغير ذلك من شؤونه وأنواعه وفنونه، المنتج لتحقق أنه كلام الله- ما لا يعلمه غيرهم فكأنما كانوا مخصوصين بهذا البيان، فقدم الجارّ فقال: {لكم الآيات} أي العلامات المنيرات. {لعلكم تعقلون} أي لتكونوا عند من يعلم ذلك ويسمعه من الخلائق على رجاء من حصول العقل لكم بما يتجدد لكم من فهمه على سبيل التواصل الدار بالاستمرار.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(اعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها).. وفي هذا القرآن ما يحيي القلوب كما تحيا الأرض؛ وما يمدها بالغذاء والري والدفء...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
افتتاح الكلام ب {اعلموا} ونحوه يؤذن بأن ما سيلقى جدير بتوجه الذهن... إليه ....
... يشير إلى أن الكلام الذي بُعده مغزى عظيم غير ظاهرِ، وذلك أنه أريد به تمثيل حال احتياج القلوب المؤمنة إلى ذكر الله بحال الأرض الميتة في الحاجة إلى المطر، وحال الذكر في تزكية النفوس واستنارتها بحال الغَيث في إحياء الأرض الجدبة. ودل على ذلك قوله بعده: قد بينا لكم الآيات لعلكم تعقلون}، وإلا فإن إحياء الله الأرض بعد موتها بما يصيبها من المطر لا خفاء فيها فلا يقتضي أن يفتتح الإخبار عنه بمثل {اعلموا} إلاّ لأن فيه دلالة غير مألوفة وهي دلالة التمثيل...
{أن الله يحي الأرض بعد موتها}...تشبيه حال ذِكر الله والقرآن في إصلاح القلوب بحال المطر في إصلاحه الأرض بعد جدبها... والمقصود الإِرشاد إلى وسيلة الإِنابة إلى الله والحث على تعهد النفس بالموعظة، والتذكير بالإِقبال على القرآن وتدبره وكلامِ الرسول صلى الله عليه وسلم وتعليمه وأن في اللجأ إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم نجاة وفي المفزع إليهما عصمة...
{قد بينا لكم الآيات لعلكم تعقلون} استئناف بياني لجملة {أن الله يحي الأرض بعد موتها} لأن السامع قولَه: {اعلموا أن الله يحي الأرض بعد موتها} يتطلب معرفة الغرض من هذا الإعلام فيكون قوله: {قد بينا لكم الآيات} جواباً عن تطلبه، أي أعلمناكم بهذا تبييناً للآيات. ويفيد بعمومه مُفاد التذييل للآيات السابقة من أول السورة مكيّها ومدنيها لأن الآية وإن كانت مدنيّة فموقعها بعد الآيات النازلة بمكة مراد لله تعالى، ويدل عليه الأمر بوضعها في موضعها هذا، ولأن التعريف في الآيات للاستغراق كما هو شأن الجمع المعرّف باللام. والآيات: الدلائل. والمراد بها: ما يشمل مضمون قوله: {ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد} إلى قوله: {بعد موتها} [الحديد: 16]، وهو محل ضرب المثل لأن التنظير بحال أهل الكتاب ضرب من التمثيل. وبيان الآيات يحصل من فصاحة الكلام وبلاغته ووفرة معانيه وتوضيحها، وكل ذلك حاصل في هذه الآيات كما علمت آنفاً. ومن أوضح البيان التنظير بأحوال المشابهين في حالة التحذير أو التحضيض.
ألا تلاحظون المناسبة هنا بين قسوة القلوب وتحجرها وبين إحياء الأرض بعد موتها؟ كأن الحق سبحانه وتعالى يريد أنْ يقول لنا: إنْ كانت قلوبكم قد ماتت وقستْ، وإنْ كانت تعاليم الدين قد ضاعت منكم فلا تيأسوا، لأن الذي يحيي الأرض بعد موتها قادر على أن يحيي موات قلوبكم.
إذن: كانت بشارة لهم أنهم سيعودون إلى ساحة الإيمان بأفضل مما كانوا عليه {قدْ بيَّنَّا لكُمُ الآيات لعلّكُم تعقلُون} ومن الآيات أن الله يُحيي القلوب بالذكر والآيات كما يحيي الأرض بالمطر، فكل منهما آية تحتاج منا إلى تفكير وتعقل وتأمل.