التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{ذَرۡهُمۡ يَأۡكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلۡهِهِمُ ٱلۡأَمَلُۖ فَسَوۡفَ يَعۡلَمُونَ} (3)

لما دلّت ( رُبّ ) على التقليل اقتضت أن استمرارهم على غلوائهم هو أكثر حالهم ، وهو الإعراض عما يدعوهم إليه الإسلام من الكمال النفسي ، فبإعراضهم عنه رضوا لأنفسهم بحياة الأنعام ، وهي الاقتصار على اللذات الجسدية ، فخوطب الرسول صلى الله عليه وسلم بما يُعرّض لهم بذلك من أن حياتهم حياة أكل وشرب . وذلك مما يتعيّرون به في مجاري أقوالهم كما في قول الحطيئة :

دَع المكارم لا تنهض لبُغيتها *** واقعُدْ فإنك أنتَ الطاعم الكاسي

وهم منغمسون فيما يتعيّرون به في أعمالهم قال تعالى : { والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم } [ سورة محمد : 12 ] .

و { ذر } أمر لم يسمع له ماض في كلامهم . وهو بمعنى الترك . وتقدم في قوله : { وذر الذين اتّخذوا دينهم لعباً ولهواً } في سورة الأنعام ( 70 ) .

والأمر بتركهم مستعمل في لازمه وهو قلة جدوى الحرص على إصلاحهم . وليس مستعملاً في الإذن بمتاركتهم لأن النبي مأمور بالدوام على دعائهم . قال تعالى : { وذر الذين اتخذوا دينهم لعباً } إلى قوله : { وذكّر به أن تبسل نفس بما كسبت } [ سورة الأنعام : 70 ] . فما أمره بتركهم إلا وقد أعقبه بأمره بالتذكير بالقرآن ؛ فعلم أن الترك مستعمل في عدم الرجاء في صلاحهم . وهذا كقول كبشة أُخت عمرو بن معد يكرب في قتل أخيها عبد الله تستنهض أخاها عمراً للأخذ بثأره :

وَدَعْ عنك عمرا إن عَمْرا مُسالِم *** وهل بَطن عَمرو غيرُ شِبر لمَطْعَم

وقد يستعمل هذا الفعل وما يراد به كناية عن عدم الاحتياج إلى الإعانة أو عن عدم قبول الوساطة كقوله تعالى : { ذرني ومن خلقت وحيدا } [ سورة المدثر : 11 ] ، وقوله : { وذرني والمكذبين } [ سورة المزمل : 11 ] .

وقد يستعمل في الترك المجازي بتنزيل المخاطب منزلة المتلبّس بالضدّ كقول أبي تمام :

دعوني أنُحْ من قبل نوح الحمائم *** ولا تجعلوني عُرضة للوَائِم

إذ مثل هذا يقال عند اليأس والقنوط عن صلاح المرء .

وقد حذف متعلق الترك لأن الفعل نزل منزلة ما لا يحتاج إلى متعلق ، إذ المعني به ترك الاشتغال بهم والبعد عنهم ، فلذلك عدّي فعل الترك إلى ذواتهم ليدل على اليأس منهم .

و{ يأكلوا } مجزوم بلام الأمر محذوفة كما تقدم بيانه عند قوله تعالى : { قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة } في سورة إبراهيم ( 31 ) . وهو أمر للتوبيخ والتوعد والإنذار بقرينة قوله : { فسوف يعلمون } . وهو كقوله : { كلوا وتمتعوا قليلاً إنكم مجرمون } سورة المرسلات ( 46 ) .

ولا يحسن جعله مجزوماً في جواب ذرهم } لأنهم يأكلون ويتمتعون سواء ترك الرسول صلى الله عليه وسلم دعوتهم أم دعاهم .

والتمتع : الانتفاع بالمتاع . وقد تقدم غير مرة ، منها قوله : { ومتاع إلى حين } في سورة الأعراف ( 24 ) .

وإلهاء الأمل إياهم : هو إنساؤه إياهم ما حقهم أن يتذكروه ؛ بأن يصرفهم تطلب ما لا ينالون عن التفكير في البعث والحياة الآخرة .

و { الأمَلُ } : مصدر . وهو ظن حصول أمر مرغوب في حصوله مع استبعاد حصوله . فهو واسطة بين الرجاء والطمع . ألا ترى إلى قول كعب :

أرجو وآمُل أن تدنو مودتها *** وما إخال لدينا منك تنويل

وتفرع على التعريض التصريح بالوعيد بقوله : { فسوف يعلمون } بأنه مما يستعمل في الوعيد كثيراً حتى صار كالحقيقة . وفيه إشارة إلى أن لإمهالهم أجلاً معلوماً كقوله : { وسوف يعلمون حين يرون العذاب } [ سورة الفرقان : 42 ] .