التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{ءَأَنتُمۡ تَخۡلُقُونَهُۥٓ أَمۡ نَحۡنُ ٱلۡخَٰلِقُونَ} (59)

وإنما ابتدىء الاستدلال بتقديم جملة { أأنتم تخلقونه } زيادة في إبطال شبهتهم إذ قاسوا الأحوال المغيبة على المشاهدة في قلوبهم لا نُعاد بعد أن كنا تراباً وعظاماً ، وكان حقهم أن يقيسوا على تخلق الجنين من مبدأ ماء النطفة فيقولوا : لا تتخلق من النطفة الميتة أجسام حية كما قالوا : لا تصير العظام البالية ذواتاً حيّة ، وإلا فإنهم لم يدّعوا قط أنهم خالقون ، فكان قوله : { أأنتم تخلقونه } تمهيداً للاستدلال على أن الله هو خالق الأجنة بقدرته ، وأن تلك القدرة لا تقصر عن الخلق الثاني عند البعث .

وفعل الرؤية في « أرأيتم » من باب ( ظن ) لأنه ليس رؤية عين . وقال الرضيّ : هو في مثله منقول من رأيت ، بمعنى أبصرت أو عرفتَ ، كأنه قيل : أأبصرت حاله العجيبة أو أعرفتها ، أخبرني عنها ، فلا يستعمل إلا في الاستخبار عن حالة عجيبة لشيء اه ، أي لأن أصل فعل الرؤية من أفعال الجوارح لا من أفعال العقل .

و { ما تمنون } مفعول أول لفعل { أفرأيتم } . وفي تعدية فعل « أرأيتم » إليه إجمال إذ مورد فعل العلم على حال من أحوال ما تمنون ، ففعل « رأيتم » غير وارد على نفس { ما تمنون } . فكانت جملة { أأنتم تخلقونه } بياناً لجملة { أفرأيتم ما تمنون } ، وأعيد حرف الاستفهام ليطابِق البيانُ مبيَّنَه .

وبهذا الاستفهام صار فعل { أرأيتم } معلقاً عن العمل في مفعول ثان لوجود موجب التعليق وهو الاستفهام . قال الرضيّ : إذ صُدر المفعول الثاني بكلمة الاستفهام فالأوْلى أن لا يعلق فعل القلب عن المفعول الأول نحو : علمْت زيداً أي من هو » . اه .

وتقديم المسند إليه على المسند الفعلي في { أأنتم تخلقونه } لإِفادة التقويّ لأنهم لما نُزلوا منزلة من يزعم ذلك كما علمتَ صيغت جملة نفيه بصيغة دالة على زعمهم تمكن التصرف في تكوين النسل .

وقد حصل من نفي الخلق عنهم وإثباته لله تعالى معنى قصر الخلق على الله تعالى .

و { أم } متصلة معادلة الهمزة ، وما بعدها معطوف لأن الغالب أن لا يذكر له خبر اكتفاء بدلالة خبر المعطوف عليه على الخبر المحذوف ، وههنا أعيد الخبر في قوله : { أم نحن الخالقون } زيادة في تقرير إسناد الخلق إلى الله في المعنى وللإِيفاء بالفاصلة وامتداد نفس الوقف ، ويجوز أن نجعل { أم } منقطعة بمعنى ( بل ) لأن الاستفهام ليس بحقيقي فليس من غرضه طلب تعيين الفاعل ويكون الكلام قد تم عند قوله : { تخلقونه } .

والمعنى : أتظنون أنفسكم خالقين النسمَة مما تمنون .