التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{فَٱلۡيَوۡمَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنَ ٱلۡكُفَّارِ يَضۡحَكُونَ} (34)

وأفادت فاء السّببيّة في قوله : { فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون } ، أن استهزاءهم بالمؤمنين في الدنيا كان سبباً في جزائهم بما هو من نوعه في الآخرة إذ جعل الله الذين آمنوا يضحكون من المشركين فكان جزاء وفاقاً .

وتقديم « اليوم » على { يضحكون } للاهتمام به لأنه يوم الجزاء العظيم الأبدي وقوله : { فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون } في اتصال نظمه بما قبله غموض . وسكت عنه جميع المفسرين عدا ابن عطية . ذلك أن تعريف اليوم باللام مع كونه ظرفاً منصوباً يقتضي أن اليوم مراد به يومٌ حاضر في وقت نزول الآية نظير وقتتِ كلام المتكلم إذا قال : اليوم يكون كذا ، يتعين أنه يخبر عن يومه الحاضر ، فليس ضَحِك الذين آمنوا على الكفار بحاصل في وقت نزول الآية وإنما يحصل يوم الجَزاء ، ولا يستقيم تفسير قوله : { فاليوم } بمعنى : فيوم القيامة الذين آمنوا يضحكون من الكفار ، لأنه لو كان كذلك لكان مقتضى النظم أن يقال فيومئذ الذين آمنوا من الكفار يضحكون .

وابن عطية استشعر إشكالها فقال : « ولما كانت الآيات المتقدمة قد نيطت بيوم القيامة وأن الويل يومئذ للمكذبين ساغ أن يقول : { فاليوم } على حكاية ما يقال يومئذ وما يكون اه .

وهو انقداح زناد يحتاج في تَنَوُّرِهِ إلى أعواد .

فإمّا أن نجعل ما قبله متصلاً بالكلام الذي يقال لهم يوم القيامة ابتداء من قوله : { ثم يقال هذا الذي كنتم به تكذبون } [ المطففين : 17 ] إلى هنا كما تقدم .

وإمّا أن يجعل قوله : { فاليوم الذين آمنوا } الخ مقول قول محذوف دل عليه قوله في الآية قبله : { ثم يقال هذا الذي كنتم به تكذبون } . والتقدير : يقال لهم اليومَ الذين آمنوا يضحكون منكم .

وقدم المسند إليه على المسند الفعلي في قوله : { الذين آمنوا من الكفار يضحكون } دون أن يقال : فاليوم يضحك الذين آمنوا ، لإِفادة الحصر وهو قصر إضافي في مقابلة قوله : { كانوا من الذين آمنوا يضحكون } أي زال استهزاء المشركين بالمؤمنين فاليومَ المؤمنون يضحكون من الكفار دون العكس .

وتقديم { من الكفار } على متعلَّقه وهو { يضحكون } للاهتمام بالمضحوك منهم تعجيلاً لإِساءتهم عند سماع هذا التقريع .

وقوله : { من الكفار } إظهار في مقام الإِضمار ، عُدل عن أن يقال : منهم يضحكون ، لما في الوصف المظهر من الذم للكفار .