التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلۡإِنسَٰنُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدۡحٗا فَمُلَٰقِيهِ} (6)

وجملة : { يا أيها الإنسان إنك كادح } إلى آخره جواب { إذا } باعتبار ما فُرع عليه من قوله : { فملاقيه } ونسب هذا إلى المبرد ، أي لأن المعطوف الأخير بالفاء في الأخبار هو المقصود مما ذكر معه .

فالمعنى : إذا السماء انشقت وإذا الأرض مُدّت لاقيتَ ربك أيها الإنسان بعد كدحك لملاقاته فكان قوله : { إنك كادح إدماجاً بمنزلة الاعتراض أمام المقصود .

وجوز المبرد أن يكون جواب إذا } محذوفاً دل عليه قوله : { فملاقيه } والتقدير : إذا السماء انشقت إلى آخره لاقيتَ أيها الإنسان ربك .

وجوز الفرّاء أن يكون جواب { إذا } قوله { وأذنت لربها } وإن الواو زائدة في الجواب . ورده ابن الأنباري بأن العرب لا تقحم الواو إلا إذا كانت { إذا } بعد ( حتى ) كقوله تعالى : { حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها } [ الزمر : 73 ] أو بعد ( لما ) كقوله تعالى : { فلما أسلما وتله للجبين وناديناه أن يا إبراهيم } [ الصافات : 103 ، 104 ] الآية .

وقيل : الجواب : { فأما من أوتي كتابه بيمينه } [ الانشقاق : 7 ] ، ونسب إلى الكسائي واستحسنه أبو جعفر النحاس .

والخطاب لجميع الناس فاللام في قوله : { الإنسان } لتعريف الجنس وهو للاستغراق كما دل عليه التفصيل في قوله : { فأما من أوتي كتابه بيمينه إلى قوله : كان به بصيراً } [ الانشقاق : 15 ] .

والمقصود الأول من هذا وعيد المشركين لأنهم الذين كذبوا بالبعث . فالخطاب بالنسبة إليهم زيادة للإِنذار ، وهو بالنسبة إلى المؤمنين تذكير وتبشير .

وقيل : أريد إنسان معين فقيل : هو الأسود بن عبد الأسد ( بالسين المهملة في « الاستيعاب » و« الإِصابة » ووقع في « الكشاف » بالشين المعجمة كما ضبطه الطيبي وقال هو في « جامع الأصول » بالمهملة ) ، وقيل : أُبيّ بن خلف ، وقد يكون أحدهما سبب النزول أو هو ملحوظ ابتداء .

والكدحُ : يطلق على معان كثيرة لا نتحقق أيَّها الحقيقة ، وقد أهمل هذه المادة في « الأساس » فلعله لأنه لم يتحقق المعنى الحقيقي . وظاهر كلام الراغب أن حقيقته : إتعاب النفس في العمل والكد . وتعليق مجروره في هذه الآية بحرف ( إلى ) تؤذن بأن المراد به عمل ينتهي إلى لقاء الله ، فيجوز أن يضمن { كادح } معنى ساععٍ لأن كدح الناس في الحياة يتطلبون بعمل اليوم عملاً لغد وهكذا ، وذلك يتقضَّى به زمن العمر الذي هو أجل حياة كل إنسان ويعقبه الموت الذي هو رجوع نفس الإنسان إلى محض تصرف الله ، فلما آل سعيه وكدحه إلى الموت جُعِل كدحُه إلى ربه . فكأنه قيل : إنك كادح تسعى إلى الموت وهو لقاء ربك ، وعليه فالمجرور ظرف مستقر هو خبر ثان عن حرف ( إنَّ ) ، ويجوز أن يضمن { كادح } معنى ماش فيكون المجرور ظرفاً لغواً .

و { كدحاً } منصوب على المفعولية المطلقة لتأكيد { كادح } المضمن معنى ساع إلى ربك ، أي ساع إليه لا محالة ولا مفر .

وضمير النصب في « ملاقيه » عائد إلى الرب ، أي فملاق ربك ، أي لا مفر لك من لقاء الله ولذلك أكد الخبر بإن .