التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{قَدۡ أَفۡلَحَ مَن تَزَكَّىٰ} (14)

استئناف بياني لأن ذكر { من يخشى } [ الأعلى : 10 ] وذكر { الأشقى } [ الأعلى : 11 ] يثير استشراف السامع لمعرفة أثر ذلك فابتدىء بوصف أثر الشقاوة فوصف { الأشقى } بأنه { يصلى النار الكبرى } [ الأعلى : 12 ] وأخر ذكر ثواب الأتقى تقديماً للأهمّ في الغرض وهو بيان جزاء الأشقى الذي يتجنب الذكرى وبقي السامع ينتظر أن يعلم جزاء من يخشى ويتذكر . فلما وفي حق الموعظة والترهيبة استؤنف الكلام لبيان المثوبة والترغيب . فالمراد ب { من تزكى } هنا عين المراد ب « من يخشى ويذكر » فقد عرف هنا بأنه الذي ذكر اسم ربه ، فلا جرم أن ذكر اسم ربه هو التذكر بالذكرى ، فالتذكر هو غاية الذكرى المأمور بها الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى : { فذكر } [ الأعلى : 9 ] .

وقد جُمعت أنواع الخير في قوله : { قد أفلح } فإن الفلاح نجاح المرء فيما يطمح إليه فهو يجمع معنيي الفوز والنفع وذلك هو الظفر بالمبتغى من الخير ، وتقدم في قوله تعالى : { وأولئك هم المفلحون } في البقرة ( 5 ) .

والإِتيان بفعل المضي في قوله أفلح } للتنبيه على المحقق وقوعه من الآخرة ، واقترانه بحرف { قد } لتحقيقه وتثنيته كما في قوله تعالى : { قد أفلح المؤمنون } [ المؤمنون : 1 ] وقوله : { قد أفلح من زكاها } [ الشمس : 9 ] لأن الكلام موجه إلى الأشقَيْنَ الذين تجنبوا الذكرى إثارة لهمتهم في الإلتحاق بالذين خشوا فأفلحوا .

ومعنى { تزكَّى } : عالج أن يكون زكياً ، أي بذل استطاعته في تطهير نفسه وتزكيتها كما قال تعالى : { قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها } [ الشمس : 9 10 ] .

فمادة التفعل للتكلف وبذل الجهد ، وأصل ذلك هو التوحيدُ والاستعداد للأعمال الصالحة التي جاء بها الإسلام ويجيء بها ، فيشمل زكاة الأموال .

أخرج البزار عن جابر بن عبدالله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { قد أفلح من تزكى } قال : من شهد أن لا إله إلا الله ، وخلع الأنداد ، وشهد أني رسول الله ، { وذكر اسم ربه فصلى } قال : هي الصلوات الخمس والمحافظة عليها والاهتمام بها ، وهو قول ابن عباس وعطاء وعكرمة وقتادة .

وقدم التزكّي على ذكر الله والصلاةِ لأنه أصل العمل بذلك كله فإنه إذا تطهرت النفس أشرقت فيها أنوار الهداية فعُلمت منافعها وأكثرت من الإِقبال عليها فالتزكية : الارتياض على قبول الخير والمراد تزكّى بالإِيمان .