وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي والحسن وأبو جعفر : «جمّع » بشدة الميم ، والباقون بالتخفيف ، وقوله { وعدده } معناه : أحصاه وحافظ على عدده وأن لا ينتقص ، فمنعه من الخيرات ونفقة البر . وقال مقاتل : المعنى استعده وذخره . وقرأ الحسن : «وعدَدَه » بتخفيف الدالين ، فقيل : المعنى جمع مالاً وعدداً من عشرة ، وقيل : أراد عدداً مشدداً ، فحل التضعيف ، وهذا قلق .
وأتبع { الذي جمع مالاً وعدده } لزيادة تشنيع صفتيه الذميمتين بصفة الحرص على المال . وإنما ينشأ ذلك عن بخل النفس والتخوف من الفقر ، والمقصود من ذلك دخول أولئك الذين عُرفوا بهمز المسلمين ولمزهم الذين قيل إنهم سبب نزول السورة لتعيينهم في هذا الوعيد .
واسم الموصول من قوله : { الذي جمع مالاً } نعت آخر ولم يعطف { الذي } بالواو لأن ذكر الأوصاف المتعددة للموصوف الواحد يجوز أن يكون بدون عطف نحو قوله تعالى : { ولا تطع كل حلاف مهين هماز مشاء بنميم مناع للخير معتد أثيم عتل بعد ذلك زنيم } [ القلم : 10 13 ] .
والمال : مكاسب الإِنسان التي تنفعه وتكفي مؤونة حاجته من طعام ولباس وما يتخذ منه ذلك كالأنعام والأشجار ذات الثمار المثمرة . وقد غلب لفظ المال في كل قوم من العرب على ما هو الكثير من مشمولاتهم فغلب اسم المال بين أهل الخيام على الإِبل قال زهير :
فكُلاّ أراهم أصبحوا يعقلونه *** صحيحاتِ مال طالعات بمخرم
يريد إبل الدية ولذلك قال : طالعات بمخرم .
وهو عند أهل القرى الذين يتخذون الحوائط يغلب على النخل يقولون خرج فلان إلى مَاله ، أي إلى جناته ، وفي كلام أبي هريرة : " وإن إخواني الأنصار شغلهم العمل في أموالهم " وقال أبو طلحة : « وإن أحب أموالي إليَّ بئرُ حاء » .
وغلب عند أهل مكة على الدراهم لأن أهل مكة أهل تجر ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم للعباس : " أينَ المال الذي عند أم الفضل " .
وتقدم في قوله تعالى : { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون } سورة آل عمران ( 92 ) .
ومعنى : { عدده } أكْثر من عدِّه ، أي حسابه لشدة ولعه بجمعه فالتضعيف للمبالغة في ( عدَّ ) ومعاودته .
وقرأ الجمهور { جمع مالاً } بتخفيف الميم ، وقرأه ابن عامر وحمزة والكسائي وأبو جعفر ورويس عن يعقوب وخلفٌ بتشديد الميم مزاوجاً لقوله : { عدده } وهو مبالغة في { جمع } . وعلى قراءة الجمهور دل تضعيف { عدده } على معنى تكلف جمعه بطريق الكناية لأنه لا يكرر عده إلا ليزيد جمعه .
ويجوز أن يكون { عدده } بمعنى أكثر إعداده ، أي إعداد أنواعه فيكون كقوله تعالى : { والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث } [ آل عمران : 14 ] .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
الذي جمع مالاً وأحصى عدده ، ولم ينفقه في سبيل الله ، ولم يؤدّ حقّ الله فيه ، ولكنه جمعه فأوعاه وحفظه ...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قرئ على التخفيف . جمع من الجمع ، أي جمع ماله عنده ، ولم يفرقه ، وعدده ، وذكره ، أي حفظ عدده ، وذكره على الدوام لئلا ينقصه ، وصفه بالبخل والشح . ومن قرأ بالتشديد فمعناه أنه جمعه ، وادّخر بمر الزمان ، ولم يجمع ذلك في أيام قصيرة . والأصل : جمعه بالتخفيف ، لكن شدده لما فيه من زيادة الجمع . ...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
أحدها : يعني أحصى عدده ، قاله السدي .
الثاني : عددّ أنواع ماله ، قاله مجاهد .
الثالث : لما يكفيه من السنين ، قاله عكرمة .
الرابع : اتخذ ماله لمن يرثه من أولاده .
ويحتمل خامساً : أنه فاخر بعدده وكثرته ...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
... قيل : { عدّده } جعله عدة لحوادث الدهر .
وإنما وصفه الله تعالى بهذا الوصف لأنه يجري مجرى السبب والعلة في الهمز واللمز وهو إعجابه بما جمع من المال ، وظنه أن الفضل فيه لأجل ذلك فيستنقص غيره . ....وأما قوله : { مالا } فالتنكير فيه يحتمل وجهين؛
( أحدهما ) : أن يقال : المال اسم لكل ما في الدنيا كما قال : { المال والبنون زينة الحياة الدنيا } فمال الإنسان الواحد بالنسبة إلى مال كل الدنيا حقير ، فكيف يليق به أن يفتخر بذلك القليل.
( والثاني ) : أن يكون المراد منه التعظيم أي مال بلغ في الخبث والفساد أقصى النهايات . فكيف يليق بالعاقل أن يفتخر به ؟
أما قوله : { وعدده } ففيه وجوه؛
أحدها أنه مأخوذ من العدة وهي الذخيرة يقال : أعددت الشيء لكذا وعددته إذا أمسكته له وجعلته عدة وذخيرة لحوادث الدهر.
( وثانيها ) : عدده أي أحصاه وجاء التشديد لكثرة المعدود كما يقال : فلان يعدد فضائل فلان ، ولهذا قال السدي : وعدده أي أحصاه يقول : هذا لي وهذا لي، يلهيه ماله بالنهار فإذا جاء الليل كان يخفيه.
( وثالثها ) : عدده أي كثره يقال : في بني فلان عدد أي كثرة ، وهذان القولان الأخيران راجعان إلى معنى العدد ، والقول الثالث إلى معنى العدة ....
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
قال الإمام : أي أن الذي يحمله على الحط من أقدار الناس هو جمعه المال وتعديده ، أي عده مرة بعد أخرى شغفا وتلذذا بإحصائه ؛ لأنه لا يرى عزا ولا شرفا ولا مجدا في سواه . فكلما نظر إلى كثرة ما عنده منه انتفخ وظن أنه من رفعة المكانة بحيث يكون كل ذي فضل ومزية دونه ، فهو يهزأ به ويهمزه ويلمزه ، ثم لا يخشى أن يصيبه عقوبة على الهمز واللمز وتمزيق العرض ؛ لأن غروره بالمال أنساه الموت ، وصرف عنه ذكر المآل ، فهو{ يحسب أن ماله أخلده } . ...
أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن للشنقيطي 1393 هـ :
وليس العيب في جَمَع مالاً ؛ بل في عدده ، يحسب أن ماله أخلده . وفي عدده عدة معان : قيل : عدَّده كل وقت وآخر ، تحفظًا عليه . وقيل : عدده كنزه . [...] والمراد به من لم يؤد حق الله فيه شحاً وبخلا ، كما تقدم في سورة { أَلْهَاكُمُ التَّكَّاثُرُ } . ...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
هذا وعيد من الله بالخصوص لأولئك الذين يطغيهم الغنى والمال ، فينظرون إلى من دونهم من الفقراء نظرة التحقير والازدراء ، ويتخذون منهم مادة رخيصة لسخريتهم وهمزهم ولمزهم من أجل كونهم ضعفاء . ...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
ثمّ تذكر الآية التالية منبع ظاهرة اللمز والهمز في الأفراد ، وترى أنّها تنشأ غالباً من كبر وغرور ناشئين بدورهما من تراكم الثروة لدى هؤلاء الأفراد ، وتقول : { الذي جمع مالاً وعدّده } بطريق مشروع أو غير مشروع . فهو انشدّ بالمال انشداداً جعله منشغلاً دائماً بعدّ المال والالتذاذ ببريق الدرهم والدينار . تحول الدرهم والدينار عنده إلى وثن ، ويرى فيه شخصيته ، وينظر من خلاله أيضاً إلى شخصية الآخرين . ومن الطبيعي أن يكون تعامل مثل هذا الإنسان الضال الأبله بالسخرية والاستهزاء مع المؤمنين الفقراء . «عدده » من ( عدّ ) بمعنى حَسَب . وقيل : من ( العُدّة ) ، بمعنى تجهيز الأموال ليوم الشدّة . وقيل : إنّها تعني أمسكه وحفظه . والمعنى الأوّل أظهر . على أي حال ، هذه الآية تقصد الذين يدخّرون الأموال ولا ينظرون إليها باعتبارها وسيلة ؛ بل هدفاً ، ولا يحدهم قيد أو شرط في جمعها ، حتى ولو كان من طريق الحرام والاعتداء على حقوق الآخرين ، وارتكاب كلّ دنيئة ورذيلة ، ويعتبرون ذلك دليلاً على عظمتهم وشخصيتهم . هؤلاء لا يريدون المال لسد حاجاتهم الحياتية ، ولذلك يزداد حرصهم على جمع المال كلّما كثرت أموالهم . وإلاّ فإن المال في الحدود المعقولة ومن الطرق المشروعة ليس بمذموم ؛ بل إنّ القرآن الكريم عبّر عنه في موضع بأنّه «فضل اللّه » حيث يقول تعالى : { وابتغوا من فضل اللّه } . وفي موضع آخر يسميه خيراً ، كقوله سبحانه : { كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصية } . مثل هذا المال ليس بالتأكيد مبعث طغيان ، ولا وسيلة تفاخر ، ولا دافع سخرية بالآخرين . لكن المال الذي يصبح معبوداً وهدفاً نهائياً ، ويدعو أصحابه من أمثال «قارون » إلى الطغيان ، هو العار والذلة والمأساة ومبعث البعد عن اللّه والخلود في النّار . ومثل هذا المال لا يمكن جمعه وعدّه إلاّ بالسقوط في أوحال الحرام .....
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.