التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{ٱلَّذِي جَمَعَ مَالٗا وَعَدَّدَهُۥ} (2)

وأتبع { الذي جمع مالاً وعدده } لزيادة تشنيع صفتيه الذميمتين بصفة الحرص على المال . وإنما ينشأ ذلك عن بخل النفس والتخوف من الفقر ، والمقصود من ذلك دخول أولئك الذين عُرفوا بهمز المسلمين ولمزهم الذين قيل إنهم سبب نزول السورة لتعيينهم في هذا الوعيد .

واسم الموصول من قوله : { الذي جمع مالاً } نعت آخر ولم يعطف { الذي } بالواو لأن ذكر الأوصاف المتعددة للموصوف الواحد يجوز أن يكون بدون عطف نحو قوله تعالى : { ولا تطع كل حلاف مهين هماز مشاء بنميم مناع للخير معتد أثيم عتل بعد ذلك زنيم } [ القلم : 10 13 ] .

والمال : مكاسب الإِنسان التي تنفعه وتكفي مؤونة حاجته من طعام ولباس وما يتخذ منه ذلك كالأنعام والأشجار ذات الثمار المثمرة . وقد غلب لفظ المال في كل قوم من العرب على ما هو الكثير من مشمولاتهم فغلب اسم المال بين أهل الخيام على الإِبل قال زهير :

فكُلاّ أراهم أصبحوا يعقلونه *** صحيحاتِ مال طالعات بمخرم

يريد إبل الدية ولذلك قال : طالعات بمخرم .

وهو عند أهل القرى الذين يتخذون الحوائط يغلب على النخل يقولون خرج فلان إلى مَاله ، أي إلى جناته ، وفي كلام أبي هريرة : " وإن إخواني الأنصار شغلهم العمل في أموالهم " وقال أبو طلحة : « وإن أحب أموالي إليَّ بئرُ حاء » .

وغلب عند أهل مكة على الدراهم لأن أهل مكة أهل تجر ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم للعباس : " أينَ المال الذي عند أم الفضل " .

وتقدم في قوله تعالى : { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون } سورة آل عمران ( 92 ) .

ومعنى : { عدده } أكْثر من عدِّه ، أي حسابه لشدة ولعه بجمعه فالتضعيف للمبالغة في ( عدَّ ) ومعاودته .

وقرأ الجمهور { جمع مالاً } بتخفيف الميم ، وقرأه ابن عامر وحمزة والكسائي وأبو جعفر ورويس عن يعقوب وخلفٌ بتشديد الميم مزاوجاً لقوله : { عدده } وهو مبالغة في { جمع } . وعلى قراءة الجمهور دل تضعيف { عدده } على معنى تكلف جمعه بطريق الكناية لأنه لا يكرر عده إلا ليزيد جمعه .

ويجوز أن يكون { عدده } بمعنى أكثر إعداده ، أي إعداد أنواعه فيكون كقوله تعالى : { والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث } [ آل عمران : 14 ] .