المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{لَوۡ يَعۡلَمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ ٱلنَّارَ وَلَا عَن ظُهُورِهِمۡ وَلَا هُمۡ يُنصَرُونَ} (39)

حذف جواب { لو } إيجازاً لدلالة الكلام عليه وأبهم قدر العذاب لأنه أبلغ وأهيب من النص عليه وهذا محذوف نحو قوله تعالى : { ولو أن قرآناً سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض }{[8228]} [ الرعد : 31 ] ، ويقدر المحذوف في جواب هذه الآية لما استعجلوه ونحوه ، وقوله { حين لا يكفون عن وجوههم النار } يريد يوم القيامة ، وذكر «الوجوه » خاصة لشرفها من الإنسان وأنها موضع حواسه وهو أحرص على الدفاع عنه ، ثم ذكر «الظهور » ليبين عموم النار لجميع أبدانهم .


[8228]:الآية (31) من سورة (الرعد).
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{لَوۡ يَعۡلَمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ ٱلنَّارَ وَلَا عَن ظُهُورِهِمۡ وَلَا هُمۡ يُنصَرُونَ} (39)

جملة { لو يعلم الذين كفروا } مستأنفة للبيان لأن المسلمين يترقبون من حكاية جملة { ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين } . ماذا يكون جوابهم عن تهكمهم . وحاصل الجواب أنه واقع لا محالة ولا سبيل إلى إنكاره .

وجواب ( لو ) محذوف ، تقديره : لمَا كانوا على ما هم عليه من الكفر والاستهزاء برسولكم وبدينكم ، ونحو ذلك مما يحتمله المقام . وقد يؤخذ من قرينة قوله تعالى : { وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلاّ هُزؤاً } [ الأنبياء : 36 ] . وحذْف جواب ( لو ) كثير في القرآن . ونكتته تهويل جنسه فتذهب نفس السامع كل مذهب .

و ( حينَ ) هنا : اسم زمان منصوب على المفعولية لا على الظرفية ، فهو من أسماء الزمان المتصرفة ، أي لو علموا وقته وأيقنوا بحصوله لما كذبوا به وبمن أنذرهم به ولما عَدوا تأخيره دليلاً على تكذيبه .

وجملة { لا يكفون } مضاف إليها ( حينَ ) . وضمير { يكفون } فيه وجهان : أحدهما بدا لي أن يكون الضمير عائداً إلى ملائكة العذاب فمعاد الضمير معلوم من المقام ، ونظائر هذا المعاد كثيرة في القرآن وكلام العرب . ومعنى الكف على هذا الوجه : الإمساك وهو حقيقته ، أي حين لا يمسك الملائكة اللفح بالنار عن وجوه المشركين . وتكون هذه الآية في معنى قوله تعالى في سورة [ الأنفال : 50 ] { ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق } فإن ذلك ضرب بسياط من نار ويكون ما هنا إنذار بما سيلقونه يوم بدر كما أن آية الأنفال حكاية لما لَقُوه يوم بدر .

وذكر الوجوه والأدبار للتنكيل بهم وتخويفهم لأن الوجوه أعز الأعضاء على الناس كما قال عباس بن مرداس :

نُعرِّض للسيوف إذا التقينا *** وجوهاً لا تعرض لللطام

ولأن الأدبار يأنف الناسُ من ضربها لأن ضربها إهانة وهزي ، ويسمى الكسع .

والوجه الثاني : أن يكون ضمير { يكُفُّون } عائداً إلى الذين كفروا ، والكَفّ بمعنى الدّرْءِ والستر مجازاً بعلاقة اللزوم ، أي حين لا يستطيعون أن يدفعوا النار عن وجوههم بأيديهم ولا عن ظهورهم . أي حين تحيط بهم النار مواجهَةً ومدابرَةً . وذِكر الظهور بعد ذكر الوجوه عن هذا الاحتمال احتراس لدفع توهم أنهم قد يكفّونها عن ظهورهم إن لم تشتغل أيديهم بكفها عن وجوههم .

وهذا الوجه هو الذي اقتصر عليه جميعُ من لدينا كُتبهم من المفسرين . والوجه الأول أرجح معنى ، لأنه المناسب مناسبة تامة للكافرين الحاضرين المقرعين ولتكذيبهم بالوعيد بالهلاك في قولهم { متى هذا الوعد } ولقوله تعالى { سأريكم آياتي } [ الأنبياء : 37 ] كما تقدم .

وقوله تعالى : { ولا هم ينصرون } عطف على { لا يكفون } أي لا يكف عنهم نفح النار ، أو لا يدفعون عن أنفسهم نفح النار ولا يجدون لهم ناصراً ينصرهم فهم واقعون في ورطة العذاب . وفي هذا إيماء إلى أنهم ستحل بهم هزيمة بدر فلا يستطيعون خلاصاً منها ولا يجدون نصيراً من أحلافهم .